فتنة العرب المضبوعين بـ«حارة الضبع»

TT

حققت سوريا عبر مسلسلها «باب الحارة» نصراً ثقافياً وسياسياً، عجزت الخطابات والتصريحات عن الإتيان بعشره على مدى السنوات القليلة الماضية. نسي اللبنانيون فجأة، بغضهم للهجة ارتبطت بأوامر ونواهي الجنود السوريين أثناء وجودهم في لبنان، وباتوا يتشدقون بها من باب الطرافة والتندر. وسقطت الحواجز النفسية، بين يوم وليلة، ليتوحد اللبناني المتحامل على سورية، كي لا نقول الحاقد عليها، مع شخصيات طلعت له من قلب الحارات الدمشقية، وكأنها على تواضع افقها، تمثل أحلامه بحياة من السهل فيها أن تسد الباب الذي يأتيك منه الريح وتستريح.

ومع ان البعض كان قد اعتبر الصدود عن شراء المسلسلات السورية عربياً، هو موقف سياسي، يستكمل حصاراً على «حصن الممانعة العربي الأخير»، لكن نجاح أحد هذه المسلسلات القليلة التي عرضت على الأقنية العربية في رمضان، كان كفيلاً بأن يسجل اختراقاً، من المحيط إلى الخليج، يعيد دمشق إلى قلوب المشاهدين ـ بتراثها، وحكاياها، ونوادرها وروحها المحافظة ـ كنموذج يتماهى معه العربي، حد الذوبان.

لكن ثمة مثقفين سوريين غاضبين من «باب الحارة»، لأنه قدم بلدهم بصورة كاريكاتورية، فيها الكثير من التبسيط والسذاجة، جعله يبدو اكثر تخلفاً وانغلاقاً من كل المنطقة المحيطة به. أيعقل ان تكون المقاومة توزيع بنادق، وصرخة حماس، وانطلاقاً غوغائياً إلى فلسطين، فيما المرأة مقصورٌ دورها على الطبخ والثرثرة وتحضير الشاي، بينما كان في دمشق، تلك الفترة، عشرين الف نول، تعمل عليها النساء؟ تسأل صحافية سورية، يبدو احتجاجها في محله. لكن سر المسلسل في بساطته، وعودته إلى زمن يتشابه مع زمننا بقدر ما يختلف عنه، فهو زمن احتلال وشهامة، عكس الاحتلال الجديد المترافق وطأطاة الرؤوس، وزمن انغلاق داخل الحارة مع كرامة، على نقيض الانفتاح الحالي والمهانة. المسلسل يلعب على أوتار خطرة، والشغف به من قبل الجموع الغفيرة، يجعل من تشريح مادته، ضرورة ملحة لفهم مغازي هذا التعلق، بنموذج أهم ما فيه أنه ينسف قيماً حداثية برّاقة وافدة، خلبت الألباب، وصاحبها خراب، كأنما لا قيامة بعده.

وكما تساءلت السيدة صافيناز كاظم في مقالتها التي نشرت اول من أمس، لماذا بات على واحدنا أن يتقيد بـ«الايتيكيت» الغربي بدل ان يلتزم «الآداب» الإسلامية، كثيرون في المجتمع العربي يطرحون أسئلتهم، بعد التغيرات الجذرية المفاجئة التي جاءت مصحوبة بفوضى عارمة، لم تجلب سوى القلق، والاكتئاب والبطالة. واسئلة السيدة صافيناز مشروعة وإن بدت كأنها نكوص، وعودة إلى زمن الأكل باليدين، بدل الشوكة والسكين. ويحق لأحدهم أن يقول لماذا يفرض الصيني على العالم، مرفوع الرأس، عالي الجبين، أكل الأرز بقضبان الخيزران، ويعاب عليّ أن آكل على طريقة أجدادي؟

وفي كتاب «اللغة والهوية» لجان جوزيف الذي ترجمته سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية أخيرا، يقول لك الكاتب شارحاً، ان الشخصيات الخيالية التي تقابلها في فيلم أو رواية أو حتى مسلسل، يمكن ان تبدو أكثر واقعية من الناس الحقيقيين، لأن هويات هؤلاء الأبطال محصورة ومحددة تماماً. وقد تكون رغبة الأفراد المتزايدة في الإحساس الواضح والقوي بالذات، متأتية من معاشرة هؤلاء الابطال المرسومين جيداًُ، في حين يجد المرء ذاته غير مرتبة وضبابية، ومعرفته بها غير مكتملة.

هكذا جاء «باب الحارة» بشخصيات بينة الخطوط والمعالم، حتى لتكاد تعرف كيف سيتصرف ابو شهاب، او ما الذي سيفعله ابو عصام، في موقف ما، حتى قبل أن ينبت أي منهما ببنت شفة. فنجاح العمل مبني كله على عبقريتي النص والإخراج. نص يعطي لكل شخصية طابعها، ومفرداتها، وايقاعها في الكلام، ويترك الأساسية منها تتبلور طوال الشهر، وكانها تختمر على نار الأحداث، بمعونة حوارات رشيقة وشيقة، معجونة بالصور والأمثال. أما الإخراج فقد ابدع في امرين، التركيز المثير على حركة العيون وجحوظها أو ذبولها، وتحرك كل بؤبؤ في حدقة الممثلين، يميناً، شمالاً، صعوداً أو هبوطاً، والاهتمام الذكي بالتفاصيل الصغيرة في المشاهد. كوب الماء مع الإبريق إلى جانب السرير ليلاً، وصحون طعام يتصاعد منها البخار أو خضراوات شهية في أكياس ورقية صغيرة، تماماً كالتي كانت شائعة تلك الفترة.

هذا لا يقلل من أهمية الممثلين، الذين شاهدناهم في حارات لمسلسلات سورية اخرى، دون ان تكون لهم الجاذبية ذاتها. لكنهم هذه المرة اكتسبوا رونقهم من نص يجعلك تضحك رغم درامية الأحداث، وإخراج يبقيك مشدوداً مع أن المنطقة الجغرافية التي تتحرك فيها الكاميرا داخل الحارتين الصغيرتين محدودة حد الاختناق، وكان يمكن للمتفرج ان يصاب سريعاً بالملل، لولا حنكة في جعل كل تفصيل صغير تلتقطه الكاميرا هو التجديد عينه. وليس غريباً بعد ذلك أن تباع عصا معتز في الأسواق اللبنانية، او يشتهي المتفرجون أكل «الصفيحة» بعد أن أحضرها ابو عصام من الفرن لأهل داره، أو تذهب بعض السيدات لشراء قدور كالتي استخدمتها دلال وجميلة في تحضير إحدى الولائم.

وصفت كاتبة سورية «باب الحارة» بأنه سياحي تجاري، اساء لأهل سوريا ونساءها وثوارها الذين كانوا منظمين ومدربين. وقال كاتب سوري آخر «الخطر على العقل العربي يتجلى في انصياع المثقف إلى نص موجه أساساً إلى ربات المنازل، وهو حين يتساوى مع هذه الشريحة، فلا بد من إعادة قراءة لما آل إليه التفكير العربي عموماً». وهذا كلام فيه من الاحتقار للمرأة والأمهات القابعات في المنازل ما لم نشهده في «حارة الضبع» التي من المفترض انها طالعة من ثلاثينات القرن الماضي.

فهل المسلسل الأميركي «زوجات يائسات» أو «دالاس» هما اعلى كعباً، وأعمق طرحاً من «باب الحارة» مثلاً؟ ولماذا لا ترى الأعمال الفنية من جوانبها كافة، ويحترم رأي الجماهير العريضة، من قبل المثقفين «الديمقراطيين» بدل اتهامها بالغوغائية؟

وإذا كان «المثقفون الكبار» كما «صغار الغوغاء» قد تابعوا كتفاً بكتف، «باب الحارة»، فذلك لأنه أشبع عطش الفئات على اختلافها. سعد الإسلاميون بالبيئة المحافظة، وتسلى المتفرنجون بفولكلور كادوا ينسونه. واستمتع خناشير هذا الزمن برؤية نساء خانعات، في ما استرجعت النساء رجولة انقرضت أو تكاد. وارتوى الآباء برؤية أولاد لا يقولون «أفٍّ»، وشعرت الأمة كلها أن الكرامة ما تزال بخير، وان المهانة مجرد كابوس وينقشع، في ما اعتبرته قناة «المنار» مسلسلاً مقاوماً، وحولت أبو شهاب إلى مذيع يستقبل المقاومين الكبار وأحفادهم على قناتها. ومن الصعب بعد كل هذا ان تعتبر «باب الحارة» مجرد مسلسل عابر ينتهي بانقضاء عرضه. فقد اسس هذا المسلسل لنموذج جديد في العمل التلفزيوني، سيأخذه كل الساعين لنجاحات مستقبلية بالاعتبار.

[email protected]