خاب العرب عسكريا.. فهل يفلحون إعلاميا؟

TT

أول الوهن: التفكير الواهن، أو (الحجة الواهنة).
فبحدة وانفعال شديدين، اعترض مسؤول صهيوني على الفيلم الوثائقي التسجيلي الذي بثته ـ الاسبوع الماضي ـ هيئة الاذاعة البريطانية (بي. بي. سي)، والذي صور باللقطات الحية، والشهادات الحية (نازية) شارون، ووحشية جيش (العدوان) الصهيوني.

وعماد الاعتراض الصهيوني هو: التشكيك في بواعث عرض الفيلم ومقاصده، اعتراضا تخلله سؤال يظنونه قويا وحاسما ومحرجا وهو: لماذا نبش ملف قد تقادم زمنه، واعادة طرح أحداث مضى على وقوعها 19 عاما؟

ومكمن الوهن في الاعتراض والسؤال هو: أن بني صهيون انفسهم لا يعترفون بـ«التقادم الزمني»، ولا بتصرم الاحداث والايام، بل ان معظم بضاعتهم السياسية والدعائية تعتمد على (نبش) الملفات القديمة.

إنهم يعترضون على استحضار وقائع عمرها 19 عاما، في حين انهم يفتحون ملفا عمره اكثر من نصف قرن، وهو (ملف الهلوكوست) فتحا ممتدا في الزمن بلا سقف، وبلا حدود. ومن الامثلة على ذلك: محاكمة اشخاص اتهموا بالضلوع في الهلوكوست.. ومن هؤلاء (كلاوس باربي الذي حوكم عام 1987.. و(ديما نجوك) الذي حوكم عام 1987 ايضا، اي بعد اكثر من اربعين عاما على المحرقة.. يفتحون هذا الملف على هذا النحو، مع وجود مفارقات كبيرة وحادة، من أبرز تناقضاتها: أن الفاعل الارهابي النازي وهو (هتلر) قد مات، وبليت عظامه، بينما الفاعل الارهابي الصهيوني وهو (شارون) لا يزال حيا، لا يزال يباشر الارهاب، والقتل، والاغتيال، والابادة الجماعية.

اكثر من هذا.. فقد سعت الصهيونية لدى السلطات ومواقع القرار الالمانية، الى الغاء (مبدأ تقادم جرائم مجرمي الحرب)، وقد تم لها ما أرادت. فهي اذن تعمل على الغاء مبادئ التقادم الزمني، فكيف تحتج او تعترض على نبش الجرائم القديمة؟ ومن الضمائم المهمة في هذا المجال: انه في مؤتمر اوربي عالمي ـ رسمي ـ عقد منذ اقل من سنتين، اصرت الصهيونية على ان تظل (ذاكرة) الاجيال البشرية ـ غير اليهودية!! ـ مركزة على المحرقة، وضغطت لكي يصدر المؤتمر العالمي قرارين اثنين، يقضي الاول بتدريس وقائع المحرقة في المدارس الحكومية، في الدول المشاركة في المؤتمر. ويقضي الآخر بـ(كبت حرية البحث العلمي)، بمعنى انه محظور على كل باحث في التاريخ، أو القانون، أو الفكر السياسي: ان يتناول قضية المحرقة تناولا يتناقض مع المسلمات الصهيونية في هذا الملف!! ولا شك ان هذا طغيان صهيوني مطلق يبرهن على حقيقتين: حقيقة، انهم لا يكتفون بالسعي الى السيطرة على العالم، سياسيا واعلاميا واقتصاديا، بل يسعون الى السيطرة على (ذاكرة) العالم، عبر اجياله المتعاقبة. وتتمثل هذه الرغبة في السيطرة في انه يجب على العالم ان يتذكر ابدا ما حدث لليهود من آلام ومآس، ويجب عليه ـ في الوقت نفسه ـ ان ينسى ابدا ما فعله طغاة اليهود بالشعب الفلسطيني. اما الحقيقة الثانية فهي العنصرية الصهيونية حتى في النظر الى جثث الموتى، وضحايا الطغيان. فجثثهم هي التي تستحق التذكر والبكاء والتنويه، اما جثث (الاغيار)، فلا قيمة لها، ولا ينبغي ان تُتذكر، أو يبكى عليها، او يشار اليها. وهذه عنصرية دونها عنصرية النازي.. وفي كل شر.

في ضوء: بث الفيلم التوثيقي التسجيلي الذي يحكي فصلا داميا من قصة الارهاب الصهيوني ضد الفلسطينيين، هل يمكن ان يقال: ان ملامح من (الوهن الادبي او المعنوي) بالنسبة للمؤسسة الصهيونية، آخذة في التزايد والاتساع؟.. ففي ذات الساعات التي بث فيها (الهلوكوست الفلسطيني) ـ في الـ بي. بي. سي ـ وهو الهلوكوست الذي اقامه شارون وزمرتهُ في صبرا وشاتيلا.. في الساعات نفسها، وجهت تهم قانونية الى آرييل شارون تتهمه بانه مجرم حرب.. ولا ريب ان هذه ضربة معنوية اخرى للمؤسسة الصهيونية حتى ولو استطاع الصهاينة الضغط من أجل تعديل قانون المحاكمة او الغائه.. وقد تزامن ذلك مع اجراءات امريكية جديدة نوعيا ونسبيا، اذ بدأت الهيئة الامريكية المكلفة بمراقبة الدولة (جي. آي. او)، التحقيق حول استخدام الكيان الصهيوني لطائرات اف 16 في غارات على اهداف فلسطينية، استخداما يخل بشروط هذا الاستخدام، وهي شروط تحصر الاستخدام في الاغراض الدفاعية فحسب.. وجرى التحقيق بناء على طلب من النائب الامريكي جون كونيوس.. يُضم الى هذه القرائن: موقف رئيسة نقابة القضاء الفرنسي سيري ماريان، فقد وصفت اسرائيل بأنها دولة مارقة.. وخارجة على القانون الدولي.. وتمارس العنصرية.

وهذه كلها مناخات وظروف ووقائع ومداخل مواتية ومفعمة بالاحتمالات الجيدة والمربحة لمن يمهر في استثمارها بذكاء.. وهمة.. ورؤية بعيدة، وحسن توقيت.

ان هذه الوقائع والمؤشرات تثير اكثر من قضية:

1 ـ تثير قضية (الاعلام العربي) الخائب ـ في الجملة ـ فهو اعلام يملك الحجج القوية ـ الماثلة في ما تقدم وفي غيره ـ، ويملك الامكانات التقنية، فقد انهارت حجة ان العرب لا يملكون وسائل اعلام مكافئة لوسائل الاعلام الصهيونية.. يملك الاعلام العربي ذلك كله، ولكنه لا يملك الاحساس العظيم بالقضية، ولا يملك التصميم القوي على خدمتها.. وهذه هي الكارثة الحقيقية، وهي كارثة توشك ان تردف الهزيمة العربية العسكرية بالهزيمة الاعلامية.

في الاسبوع الماضي، اجتمع وزراء الاعلام العرب في بيروت، اي في ذات الوقت الذي بث فيه فيلم الهلوكوست الفلسطيني، فهل دان هؤلاء الوزراء انفسهم بجريمة التقصير في سبق الاذاعة البريطانية الى هذا العمل الاعلامي الجيد؟.. واذا فاتهم هذا، فهل ستفوتهم الخدمة الاعلامية الماهرة والطويلة لفرصة محاكمة شارون وفق القانون البلجيكي.

ان قسطا كبيرا من الصراع بين العرب والمؤسسة الصهيونية قد تركز في (الاعلام): الخبر، والمعلومة، والتحليل والتفسير والتوثيق والتسجيل والدراما.. الخ. وليس يغيب عن وعي عربي يحترم نفسه: ان الصهيونية قد مهرت في استغلال الاعلام ضد خصومها، وذلك بتزيين باطلها، وتقبيح وجوه الامم والشعوب الاخرى ـ ولا سيما الامة العربية والاسلامية ـ، لنقرأ مثلا الفقرة التالية من قرارات المؤتمر الصهيوني الحادي والثلاثين: «يطالب المؤتمر بشن حملة اعلامية مكثفة في العالم في شأن وضع اليهود في الدول الاسلامية».. ان وزراء الاعلام العرب هم (الكتيبة العربية) المتقدمة في جبهة الصراع الاعلامي مع المؤسسة الصهيونية، بيد ان العدو يدلف الى تحقيق اهدافه من خلال خروقات مميتة في هذه الجبهة.. ومن هذه الخروقات: الكسل والغباوة.. والتضاؤل النفسي والفكري أمام قصف العدو، وهو تضاؤل يكاد يجعل العدو ينصر بـ«الرعب» من بعيد!! ولسنا ندري: لماذا التردد والخوف؟ ان سلاح الصهيونية الذي تحسبه ماضيا وحاسما هو اتهام الآخر بـ(معاداة السامية)، بيد ان هذا السلاح مكسور ومغلول في ما يتعلق بالعرب، اذ لا يمكن ان توجه اليهم تهمة معاداة السامية، ذلك ان العرب هم الساميون الحقيقيون: ارومة، ومواطن اولى، ولسانا. ولربما كان السياق مناسبا لاقتراح عقد (مؤتمر عالمي) للجواب عن سؤال واحد وهو (من هم الساميون)؟.. ويتعين ان يدعى الى هذا المؤتمر اساطين العلماء والباحثين في التاريخ، والأنساب والاجناس واللسانيات والحضارات، وبخاصة الحضارات القديمة.. ونحن واثقون من ان المؤتمر سينتهي الى تكذيب الصهيونية وتصديق العرب.. ولسنا عنصريين، فنحن نعلم من كتاب ربنا ان الناس سواء كلهم لآدم، وآدم من تراب. ولكن هذا المؤتمر سيجرد الصهيونيين العنصريين من سلاحهم الاعلامي الذي يشهرونه دوما ضد العرب.. فهل يتبنى وزراء الاعلام العرب، هذا العمل الاعلامي الفاصل؟ ثم ان الاعلام العربي، اكثر اعلامات العالم ترديدا للشعارات والمصطلحات التي يصكها الآخرون، ومنها شعار: القرن الحادي والعشرين.. وشعار: العولمة. فهل ادرك المسؤولون عن الاعلام العربي، احد أهم عناصر القوة والنفوذ والتأثير، في القرن الحادي والعشرين، وفي ظل العولمة؟.. ان الاعلام هو هذا العنصر. وبافتراض انهم ادركوا ذلك، فهل طبقوا ما أدركوه؟

ان الهزيمة الاعلامية العربية تكاد تزامل الهزيمة العسكرية. فهل نطمح من الجامعة العربية ـ في عهدها الجديد ـ: ان تبتدر اعلاما عربيا قويا من المتفق عليه وموجها الى العالم، يصلح الخلل ـ على الاقل ـ في الموازين النفسية والفكرية والاعلامية بيننا وبين عدونا الحقيقي: اليوم وغدا؟ 2 ـ وتثير تلك الوقائع والقرائن قضية (الجذور الفكرية للارهاب الصهيوني).. ان القول بان شارون ارهابي، ومجرم حرب، قول صحيح. ولكن شارون ليس بدعا بين الصهيونيين وليس شاذا عن (المنهج الشرير) الذي يغذي بالعنف والبطش والارهاب كل يهودي صهيوني.. مثلا: مذبحة دير ياسين موصولة بمذبحة صبرا وشاتيلا. وهاتان المذبحتان موصولتان بمذبحة المسجد الابراهيمي، وهذه الثلاثة موصولة بالارهاب الدموي الراهن الذي يمارسه شارون وجيشه ومستعمروه على الشعب الفلسطيني بالاسلحة كافة، بل نستطيع القول ان شارون اكثر دموية ونازية لانه اكثر التزاما بالمنهج الشرير، اذ كلما اخلص حملة المنهج الشرير لمنهجهم، ازدادوا عتوا وطغيانا وفجورا وتعطشا للدم الانساني «والذي خبث لا يخرج إلا نكدا» ولن نستشهد الا بيهود للدلالة على الجذور الفكرية للارهاب الصهيوني. يقول اسرائيل شاحاك، في كتابه (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 سنة) يقول: «ان قتل اليهودي بحسب الديانة اليهودية، جريمة عقوبتها الاعدام ولكن عندما تكون الضحية من الاغيار (اي غير اليهود) يختلف الوضع تماما. فاليهودي الذي يقتل احد الاغيار يكون مذنبا فقط بارتكاب معصية ضد شرائع السماء، وهي معصية غير قابلة لعقوبة صادرة عن محكمة. اما التسبب بصورة غير مباشرة بمقتل احد الاغيار، فهذا ليس معصية على الاطلاق».. وبمقتضى هذا الجذر العقدي والفكري للارهاب الصهيوني، دأب الاعلام الصهيوني على القول ان شارون يتحمل مسؤولية غير مباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، اي انه لم يرتكب معصية على الاطلاق! 3 ـ وتثير تلك الوقائع قضية (تأصيل دينونة الاجرام ومدها في الازمان الآتية) طالما ان المجرم لم يتب، ولم ينفصل سلوكه عن الجريمة. فاذا كانت الصورة الذهنية والاعلامية للاخيار، ينبغي ان تكون جميلة وضيئة، ليس في جيل واحد، بل عبر الاجيال المتعاقبة الى ما لا نهاية: «واجعل لي لسان صدق في الآخرين»، فان الصورة الذهنية والاعلامية للاشرار يجب ان تكون قبيحة معتمة ليس في جيل واحد، بل عبر الاجيال المتعاقبة الى ما لا نهاية، «قتل اصحاب الاخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد. إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق».

4 ـ وتثير الوقائع الآنفة قضية (اسقاط الاجرام الصهيوني) على الولايات المتحدة الامريكية.. لقد تبين ان المؤسسة الصهيونية تتغذى بالارهاب، وتعيش به وله.. فهل يسر الولايات المتحدة؟ وهل من جمال صورتها لدى الرأي العام العربي الاسلامي، بل الرأي العام العالمي: ان تنحاز الى اكبر مؤسسة ارهابية في العالم، وهي الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة؟

ان منطق العقل والمصلحة يقضي بالابتعاد عن المرضى بالارهاب لئلا يصيب المعافى ما اصابهم. والا فان الارهاب الصهيوني الاجرامي سيسقط على صورة الولايات المتحدة فيشوهها تشويها لا تنفع اصباغ العالم كله في تجميله.