هل إعادة الانتشار السوري في لبنان بداية تحرير الجولان؟

TT

عندما سمعت بخبر اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، تبادر الى ذهني اثنان: إميل لحود وبشار الأسد. وتراءى لي ان الرئيس اللبناني خطا باتجاه اخراج لبنان من مأزقه السياسي والاقتصادي الذي كان يبدو من دون افق، وان الرئيس السوري عقد العزم على تحرير الجولان بالسياسة أو بالقوة بديلا عن طريق مفاوضات السلام المسدودة نظريا وعمليا.

وتسقطت اخبار اعادة الانتشار علني أجد ما ينفي أو ما يؤكد انطباعي الأولي حيال هذه الخطوة، لكن المعلومات المتوافرة كانت دون ما كنت آمل! وتذكرت مقولتين متناقضتين سادتا منذ دخول الجيش السوري الى لبنان في عام 1976، تقول الأولى، وهي مقولة أخصام سوريا في لبنان وخارجه، ان دمشق قبلت بلبنان بديلا عن الجولان، وتقول المقولة الثانية التي يرددها المدافعون عن سوريا بأنها لا تقبل بلبنان بديلا عن الجولان، وانها دخلت لبنان حفاظا على وحدته والأمن القومي السوري والعربي.

وكادت ان تطغى المقولة الأولى في الآونة الأخيرة لشدة ما أبدت سوريا من اصرار على ابقاء جيشها في لبنان، وجاءت خطوة اعادة الانتشار لتسقطها وتعزز المقولة المقابلة لها، وتضع المنطقة في المدى المنظور على اعتاب مشروع سوري لتحرير الجولان من الاحتلال الاسرائيلي.

واذا نظرنا الى حجم اعادة الانتشار يتبين لنا انها ليست عملية محدودة أو مجرد تبديل مواقع، بل تناولت تخفيضا ملحوظا للقوات السورية العاملة في لبنان يقدر بحوالي عشرة آلاف جندي وضابط غادروا الأراضي اللبنانية الى سوريا أو هم على وشك المغادرة.

ولو أخذت بقول الذين يرون بأن هذه الخطوة كانت مقررة سلفا في العام الماضي وتأخر تنفيذها بفعل الحملات اللبنانية الداخلية على الوجود العسكري السوري، فلا أرى مبررا لتبديل قناعتي، فما زلت اعتقد ان المقصود من كل تحرك استراتيجي سوري في الاساس هو تحرير الجولان من الاحتلال الاسرائيلي، خصوصا بعد ان تم تحرير لبنان.

واذا ماشيت من يرى ان سوريا تستخدم لبنان ورقة لدعم موقفها التفاوضي في شأن الجولان، فلا مفر من الاشارة الى ان عواصم القرار الدولي كانت في الوقت عينه تستخدم ورقة الوجود العسكري السوري في لبنان لتبرر بقاء الاحتلال الاسرائيلي للجولان، وحين تيقنت سوريا ان بقاء جيشها منتشر في لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي منه بات مكلفا سياسيا، وسوف يستخدمه اخصامها لتأخير استعادتها الجولان، قررت القيام بالحركة الضرورية لابقاء الورقة بيدها وسحبها من يد اخصامها في الوقت عينه.

وفي ظل التفاهم القائم بين إميل لحود والأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله وقدرتهما المشتركة على ردع اسرائيل وحماية ظهر سوريا، لربما وجد بشار الاسد الفرصة السانحة لاعادة خلط الوقائع الميدانية على الأرض على نحو يساعده على تحقيق هدفه باستعادة الجولان.

واظن ان اعادة الانتشار السوري في لبنان هي خطوة عسكرية بامتياز في بعدها السوري وتشكل الهدف البعيد الذي يتطلع اليه بشار الاسد وهو تحرير الجولان، وهي خطوة سياسية بامتياز في بعدها اللبناني، وترمي الى استقطاب القوى الفاعلة في لبنان، لا سيما المسيحية منها، وتشكل الهدف القريب الذي يرنو اليه اميل لحود.

والنتيجة المباشرة الأولى لخطوة اعادة الانتشار تمثلت بتكبير مصداقية إميل لحود على المستويين المسيحي واللبناني، وهي تصب في خانته بصورة مباشرة وبالكامل، وتكشف مدى الثقة المتبادلة بين الرئيسين اللبناني والسوري وانعكاس هذه الثقة ايجاباً على الدولتين الى درجة انه باتت دمشق تدير ظهرها باطمئنان الى الجيش اللبناني، وصار بمقدور بيروت ان تتكل على سوريا للحفاظ على مصالحها في العالم العربي.

لقد افادت خطوة اعادة الانتشار السوري اميل لحود بالدرجة الأولى، وافسحت له في المجال لفك طوقين دفعة واحدة: الطوق المسيحي الذي فرضته عليه المطالبات المسيحية في هذا الشأن، والطوق السياسي الذي فرضته عليه المعارضة عن طريق عودة رفيق الحريري رئيسا للحكومة اللبنانية.

الى افادة اميل لحود كسب بشار الاسد بعض المصداقية في الوسط المسيحي بعدما تزايدت الشكوك حول صدق نياته في شأن حرصه على سيادة لبنان واستقلاله ورغبته في قيام حكم لبناني قوي وعادل وشفاف، كما اكدت هذه الخطوة ان الرئيس السوري جاد في سعيه لتصحيح العلاقة اللبنانية ـ السورية وهو الذي مافتئ يتحدث عنها كعلاقة نموذجية لم تكتمل بعد.

والواقع التاريخي والاستراتيجي انه لا ينفع سوريا ان يكون لبنان مضطربا سياسيا أو أمنيا، ما ينفعها هو لبنان المتعافى والمستقر والذي تربطه بدمشق علاقات متوازنة ومتمايزة ومتلازمة. ان التوازن في العلاقات اللبنانية ـ السورية هو شرط بناء علاقات مميزة، والعلاقات المميزة هي ما يبرر التلازم بين المسارين. من دون التوازن لا يمكن بناء علاقات طبيعية، وكم بالأحرى علاقات مميزة، ومن دون العلاقات المميزة لا يمكن التوصل الى التضامن بين الدولتين فكم بالأحرى التلازم بين المسارين. وهكذا تبدو عملية اعادة التوازن الى العلاقات اللبنانية ـ السورية هي الطريقة الى ضمان العلاقات المميزة وتلازم المسارين على حد سواء.

ان خطوة اعادة الانتشار السوري في لبنان تمهد بالتأكيد الى مرحلة جديدة من العلاقات اللبنانية ـ السورية، وكما وقفت دمشق الى جانب اميل لحود ودعمت «حزب الله» بقصد تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، فإن اميل لحود سوف يرد الجميل ويدعم سوريا في مواجهتها مع اسرائيل في مشروعها لتحرير الجولان.

غير ان تداعيات هذا الانتشار لا تقف عند حدود لبنان وسوريا وعلاقتهما الخاصة في ما بينهما، بل تعدتها الى فرنسا التي رأت في هذه العملية «رسالة ايجابية» اطلقتها دمشق باتجاهها عشية زيارة بشار الاسد الى باريس، خصوصا ان الموضوع اللبناني سيكون حاضرا على جدول اعمال المحادثات الفرنسية ـ السورية.

ان حركة بشار الاسد الاخيرة في لبنان كانت موفقة ليس فقط على صعيد البلدين، بل ايضا على الصعيد الاقليمي وحتى الصعيد الدولي، مما يدل على مدى الدور الذي باتت تحتله الدولتان اللبنانية والسورية على الساحة الاقليمية، لا سيما بعد نجاحهما في اجبار اسرائيل على الانسحاب من لبنان من دون مقابل وانفاذا لقرار الشرعية الدولية.