همومنا العربية: شهادات من الضفة الأخرى

TT

أولاً: عند كتابة مقالي في الأسبوع الماضي الذي كان يتضمن رسالة إلى صديق وأخ فلسطيني، يبدو أنني أسهبت في بعض الشرح فتجاوزت المساحة المعتادة للمقال مما استوجب بعض الاختصار عند النشر، ولذلك فإني حريص على تكرار نقطتين سقطتا.

أولاهما: أنه لو كانت تشكلت حكومة ائتلافية مباشرة بعد نجاح حماس في الانتخابات، فإن ذلك كان من شأنه المساعدة على تخفيف الزوايا الحادة لمواقفها اتساقاً مع التطور الطبيعي الذي شهدته كل حركات التحرير، (وليس حركات التمرد كما ورد فيما نشر بسبب غلطة مطبعية) عند وصولها إلى الحكم، وهو ما يبدو أنه كان مقصوداً تجنبه من جانب بعض القوى التي بادرت إلى فرض الحصار على غزة وتجويع الشعب الفلسطيني مما دفع الأمور إلى حافة الهاوية التي أدت إلى ما أسماه البعض انقلاباً عسكرياً من جانب حماس وقعت فيه تصرفات مؤسفة ومدانة، وما أسماه البعض الآخر انقلاباً سياسياً قامت به السلطة الفلسطينية واستغله الإسرائيليون وحلفاؤهم لتعميق الوقيعة وزيادة الهوة.

ثانياً: إذا كان البعض يرون فيما أكتب إسرافا في انتقاد المواقف الأمريكية، خاصة في ما يتعلق بمساندتها بغير تحفظ للمواقف الإسرائيلية فإن رحلة كونداليزا رايس إلى المنطقة (التي ما زالت تدعو إلى اجتماع مجهول الهوية والهدف، غير معروف من الذي سيدعى إليه، فتارة يتحدثون عن استبعاد سوريا، وتارة يقولون إنها ستدعى فقط بصفتها عضواً في لجنة المتابعة العربية، وهي لجنة مهمتها متابعة المبادرة العربية التي لا يبدو أن واشنطن تقبلها كجزء من جدول أعمال اللقاء، وفي نفس الوقت يستبعدون من جدول أعمال الاجتماع أو اللقاء أو المؤتمر بحث موضوع الجولان مع أن المبادرة العربية تشمل كل قضايا الاحتلال والعدوان الإسرائيلي. هذا الغموض في الموقف الأمريكي، وإصرار إسرائيل في نفس الوقت على رفض أي تعهد فيما يتعلق بقضايا الوضع النهائي الفلسطيني هو الذي جعل الدول العربية حريصة ـ قبل الالتزام بأي شيء بما فيه حضور المؤتمر ـ على أن تستوضح الأمور استيضاحاً وافياً، وهو ما لا يبدو حتى الآن أن السيدة رايس قادرة على الاستجابة له، لأن الدعوة إلى المؤتمر يبدو أنها تستهدف في واقعها أموراً لا تريد الكشف عنها.

ثالثاً: ولست أريد في هذا المقال أن استطرد في نقد المواقف الأمريكية أو تكرار ما سبق أن قلته وقاله آخرون ولكني أريد الاكتفاء بشهادات شهود من مصادر أمريكية أو صديقة لأميركا.

* توالى النشر في الأسابيع الأخيرة في الصحف الأمريكية والتعليقات من مصادر أمريكية حول فضيحة المذكرات السرية الصادرة من وزارة العدل الأمريكية ـ في عهد وزيرها السابق عضو عصابة المحافظين المتطرفين ـ والتي يتيح أنواعا من التعذيب للمعتقلين والمشتبه فيهم، بالمخالفة للقانون الأمريكي الذي كان من المفروض بعد صدوره أن تلغى تلك المذكرات ولكن اتضح أنها سارية المفعول. ويرتبط بذلك ما اتضح من ممارسات غير قانونية ولا أخلاقية تتعلق بنقل بعض المشتبه فيهم إلى سجون سرية خارج أميركا حتى يتعرضوا للتعذيب بعيداً عن سطوة القانون الأمريكي.

* واتصالاً بذلك فإن الصحف الأمريكية والأوساط القانونية تعرضت بالنقد الشديد لموقف المحكمة العليا التي رفضت مجرد تناول قضية رفعها شخص تعرض لمثل هذه الممارسات غير القانونية واختطف في الخارج للاشتباه في مشاركته في نشاطات إرهابية، ثم أطلق سراحه في ألبانيا لعدم ثبوت التهمة عليه، فتقدم الى المحكمة العليا لتنصفه، فلم تشأ حتى مجرد تناول القضية بحجة أن ذلك قد يكشف أسراراً لا يصح الكشف عنها.

* ومن ناحية أخرى فقد توالت الانتقادات للمواقف الأمريكية في حرب العراق، ومن ذلك قول جنرال سابق كان يعمل في العراق أن السياسة الأمريكية أوصلت الأمور إلى كارثة ومأساة. كما تحدث مسئولون سابقون عن الفساد الذي أتت به القوات الأمريكية معها إلى العراق والذي لم يقتصر على مسئولين عراقيين جاءوا على متن دبابات أمريكية، بل شملت مسئولين أمريكيين استغلوا دماء عراقية وأمريكية للإثراء غير المشروع عبر صفقات مريبة واختلاسات وسرقات. وفي ضوء ذلك، وما كشف من أكاذيب حول مبررات غزو العراق، فإن الرأي العام الأمريكي أصبح في غالبيته يدين الإدارة الحالية التي أوقعته في كثير من الأخطاء التي ستدفع أميركا ثمنها لفترات طويلة وستظل بقعة سوداء في تاريخ يتصور بعض الأمريكيين بسذاجة انه تاريخ مشرق في الدعوة إلى الحرية والمساواة وحقوق الإنسان وسيادة القانون وكلها معان أهدرت ـ باعتراف العقلاء من الأمريكيين ـ على مذبح إيديولوجيات مريضة ومتعصبة.

* وبالنسبة لفلسطين، بالإضافة إلى ما ذكرت في هذا المقال وفي مقالاتي السابقة، فإني أريد أن أنقل من رسالة وقعتها شخصيات مرموقة مثل برجنسكي، ولي هاملتون، وتوماس بيكربخ وسكوكرفت، وبول فولكر، وتد سورنسون (الذين شغلوا مواقع هامة وحساسة في إدارات مختلفة وعرفوا بالحكمة والواقعية ورجاحة الفكر).

وقد ورد في الرسالة أن حواراً حقيقياً مع حماس أفضل من عزلها. كما ورد فيها ضرورة مشاركة سوريا في عمليات البحث عن السلام. وتضمنت الرسالة أن المؤتمر القادم يجب أن يتناول مضمون السلام الدائم ويركز على الهدف النهائي استناداً الى قرارات مجلس الأمن، والخطوط الرئيسية التي حددها كلينتون في 2000، والمبادرة العربية وخريطة الطريق، وصولاً إلى قيام دولتين في حدود ترتكز على خطوط 4 يونيو مع إمكانية تعديلات طفيفة ومتبادلة ومتفق عليها ومتساوية على الطرفين، وعلى أساس أن تكون عاصمتا الدولتين في القدس.

* وأشير أيضاً بالنسبة لفلسطين، إلى ما ورد على لسان مسئول الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان من مطالبة المنظمة الدولية بالانسحاب من «الرباعية الدولية» لأنها لم تقم بواجبها تجاه الشعب الفلسطيني.

* وأنقل كذلك عن «فلنت ايفريت» المسئول الذي عمل بالقرب من وزير الخارجية الأمريكي السابق كولين باول قوله: «المشكلة التي تواجه أميركا في منطقة الشرق الأوسط أن النظرة إليها أصبحت ـ نتيجة لسياساتها ـ نظرة إلى قوة محتلة وما يترتب على ذلك من مشاعر من السخط والعداء». وقد لمس ايفريت كبد الحقيقة، فقد أدت الممارسات الأمريكية إلى تخلي حتى الكثير من أصدقائها عن نظرتهم الإيجابية لها، وأصبحوا ينظرون إليها كقوة إمبراطورية، تنادي بمبادئ نبيلة وتخالفها كل يوم في ممارساتها، تدعي أنها تحمل إلى الشعوب الحرية وتمنيهم بأنها داعية للديموقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها تنحاز وتمارس سياسات تكشف النفاق وعمق الهوة بين «الواقع الحقيقي» و«الواقع المصطنع».

رابعاً: هذه بعض أمثلة من الكثير مما شهد به أمريكيون، يحبون بلدهم ويتمنون له الخير، ويدركون خطورة المنزلق الذي قادتهم إليه سياسات خرقاء ما زال محكوماً عليهم وعلى العالم أن يتحملها ويتحمل مخاطرها حتى يناير 2009، وهي فترة طويلة قد تحمل معها المزيد من الكوارث. وأعتقد أنه من المهم في هذه الظروف أن نبحث عن طرق للتواصل مع القوى الأمريكية المتعقلة في حوار بناء يحاول أن يقلل من مخاطر الحاضر، ويعد لبدايات جديدة قد تعيد بعض التوازن الذي يؤدي اختلاله ـ مثل اختلال طبقة الأوزون ـ الى كوارث يمكن التنبؤ بها دون معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه.