تركيا والأرمن وواشنطن: تلك جرعة السم

TT

ليس ثمة شك في أن قرار مجلس النواب الاميركي بإدانة تركيا على ارتكابها جرائم «إبادة» بحق الأرمن خلال الفترة من 1915 حتى عام 1923 لا يخدم غرضا، كما انه سيعقد العلاقات الاميركية ـ التركية، إن لم يلحق بها ضررا بليغا. ليس ثمة شك أيضا في أن الأتراك يتسمون بحساسية عالية تجاه هذه القضية، وبما أن تركيا طرف مساعد في الحرب في العراق وصديقة لإسرائيل، فإن مشاعرها يجب أن تؤخذ في الاعتبار.

كل هذا صحيح، ولكن كنت سأشعر بارتياح أكثر تجاه إدانة قرار مجلس النواب لأسباب أخرى بخلاف تلك التي أشرت إليها.

استخدم مكررا في قرار مجلس النواب مصطلح «الإبادة»، وهو مصطلح استخدمه الكثير من المفكرين. إلا أن المهاجر اليهودي البولندي رافائيل ليمكين عندما ابتكر هذا المصطلح عام 1943 كان في ذهنه ما فعله النازيون ضد اليهود. إذا كان ذلك هو المعيار ـ ولا ينبغي أن يكون كذلك ـ فإن الأحداث التي جرت خلال انهيار الإمبراطورية العثمانية لم تصل إلى مستوى الإبادة. ما حدث كان بشعا، فقد قتل حوالي 1.5 مليون أرمني، إلا أن تلك الكارثة لم تشمل كافة الأرمن الذين كانوا يعيشون في كل أجزاء تركيا بحدودها المعروفة في ذلك الوقت. فعمليات القتل الواسعة النطاق لم تمتد إلى أرمن القسطنطينية وأزمير وحلب. وبالمقارنة، طالت عمليات القتل الجماعي اليهود في كل المدن الألمانية. وبصرف النظر عن تسمية ما حدث، فإن ما بدأ يحدث للأرمن اعتبارا من عام 1915 لا يغتفر، ونأمل ألا يطويه النسيان. إلا أن ما حدث كان قد ارتكب بواسطة حكومة لم تعد موجودة ـ حكومة «الباب العالي» المزعومة بسلطانها وجواريها والمخصيين وغيرهم. وحتى في عام 1915 لم تعد تركيا قادرة على إدارة الأراضي الواسعة الواقعة تحت سلطتها. كانت الإمبراطورية تتهاوى، وكان «رجل أوروبا المريض» يلفظ أنفاسه الأخيرة. القوات التركية كانت تعاني من الجوع وبدأت شعوب بعض البلدان التابعة للإمبراطورية تعلن استقلالها وتمردها على السلطة العثمانية. الأرمن كانوا من ضمن هؤلاء، وهم من أقدم الشعوب ومن أوائل الذين اعتنقوا المسيحية. لذا، فلتركيا الحق في الإصرار على أن الأمور ليست بهذه البساطة. إذا استخدمنا كلمة «إبادة»، فإنها تشير إلى الهولوكوست، وهذا ما لم يحدث هناك. إلا أن تركيا ذهبت إلى أبعد من مجرد الاعتراض على استخدام المصطلح، وأبدت اختلافها مع الحقائق على نحو لا يمكن التغاضي عنه. فقد ألقت السلطات التركية القبض عام 2005 على كاتبها الشهير الحائز جائزة نوبل، اورهان باموك، بسبب اعترافه بعمليات القتل الجماعي التي تعرض لها الأرمن. وفي نهاية الأمر أسقطت التهم الموجهة إلى باموك. وعلى الرغم من تعديل القانون التركي في بعض الجوانب، فإن الحديث بصورة علنية وصريحة حول ما حدث عام 1915 لا يزال أمرا محفوفا بالمخاطر لدى الأتراك.

يمكن القول، إنني من معجبي تركيا. فقادتها في التاريخ الحديث، ابتداء من مصطفى كمال أتاتورك، بذلوا مجهودات جبارة في إخراج تركيا من أجواء القرون الوسطى إلى الحداثة دون حدوث نزيف الدم المعتاد. يضاف إلى ذلك، اشرع بالتقدير تجاه رغبة تركيا القوية في الإقبال على الحداثة والإسلام على حد سواء وإثبات أن الإسلام لا يتعارض مع الحداثة. واعتقد انه كان على رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، النظر أيضا إلى أهمية تركيا الاستراتيجية بالنسبة لأميركا. وما يمكن قوله أن الأتراك ظلوا على مدى سنوات طويلة يصارعون الحقيقة ويصرون على أنهم وحدهم الذين سيكتبون تاريخ ما حدث عام 1915. ولا يزالون يسيرون في نفس الطريق الآن، ويبقى القول انه إذا أطلقنا كلمة «إبادة» أو أي مفردة أخرى على ما حدث للأرمن من جانب تركيا عام 1915، فإن إصرار تركيا على أنها وسلطتها وحدهما اللذان يحددا الحقيقة أمر غير مقبول.

*خدمة «واشنطن بوست»

ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»