عبقرية (كسب العداوات).. وصنع أزمات لا حل لها

TT

لن يكون غريبا إذا اضاف احد الى مصطلحات او مفردات (الشرق الأوسط الجديد ينشأ من مخاض الحروب).. و(الفوضى الخلاقة)، لن يكون غريبا ـ لا في اللغة ولا المضمون ـ إذا اضاف احد مصطلحات جديدة مثل (عبقرية صناعة الأزمات والعجز عن حلها).. و(تشويه الذات بيد الذات).. و(استراتيجية كسب العداوات بالجملة وفي كل حين).

وإنما تُنفى الغرابة عن ذلك من حيث ان مضامين هذه المصطلحات المضافة ماثلة في وقائع وممارسات لا تفتأ تزيد ولا تنقص وتشتعل ولا تنطفئ.

مثلا: مصطلح (استراتيجية كسب العداوات وزيادة معدلاتها): يمكن اقامة البرهان عليه بسرعة موضوعية وزمنية.. ففي اسبوع واحد ـ هو الاسبوع المنصرم ـ تبدت تصرفات ومواقف ومسالك: تجلب العداوات وتؤججها.. مثال ذلك: ان جلب الرئيس الامريكي جورج بوش (عداوة العالم) بحديثه المرعب جدا عن حرب عالمية ثالثة، فالعالم كله ـ بلا استثناء ـ يكره الحروب. ويكن العداوة لمن يلوح بها او يشعلها، ذلك ان في عالمنا هذا (وعيا انسانيا كوكبيا) عاليا يناهض الحروب بثبات ولا سيما انه وعي يعرف ـ بعمق ـ آثار هذه الحروب على الانسان والبيئة والبنيان الحضاري العام. إذ ان في العالم مخازن ضخمة لاسلحة قادرة على ابادة البشرية وما بنته من عمران ومدنيات.. ومن ردود الفعل على هذه التلويحات بحرب عالمية: ما قاله مسؤول وخبير بارز في شؤون السياسة الخارجية وهو الخبير السياسي الالماني رولف موتسينش. فقد قال: «إن هذه التصريحات تضر بالتعامل السلمي والجماعي العالمي. فاندلاع حرب عالمية ثالثة في هذا الزمن النووي يعني نهاية الانسانية».. والقياس مهم ـ ها هنا ـ. فإذا كانت شعوب العالم قد ناهضت ـ بمجملها ـ: الحرب الاقليمية على العراق، وجاهرت بكراهية مشعليها، فإنها ستكون أشد مناهضة وعداوة لحرب عالمية ثالثة، وللملوحين بها.. ولقد شعر البيت الابيض نفسه بمخاطر وحماقة تلك التصريحات وبردود فعلها المعادية: على المستوى العالمي، شعر بذلك فأخذ يلطف الموقف المكفهر بعبارات منها (ان الرئيس لم يقصد بكلامه: وضع خطة عسكرية لحرب عالمية ثالثة).. (ان الرئيس لم يكن في وارد وضع خطة حرب بل كان يسجل ملاحظة).. (ان كلام الرئيس مقاربة كلامية حول مخاطر حرب عالمية ثالثة).. والسؤال الطبعي والسياسي والغريزي والفكري والاعلامي والزمني هو: لماذا النزق الهائل في مثل هذه الامور. ثم الاضطرار الخجول الجفول للتراجع عما بدا وظهر؟!!.. هل العالم في (ناد للتجارب على الكلمات والعبارات الموحية بالحروب)؟!!.

وفي المدى الزمني ذاته: رفعت الادارة الامريكية درجة معدلات عداوتها للصين الشعبية من خلال استقبالها التعظيمي للدالاماي التبتي. فقد تكرهبت الصين بالغضب العاصف ضد هذا التصرف، وعبرت عن غضبها في صور شتى منها استدعاء السفير الامريكي في بكين وابلاغه الاحتجاج الشديد، ومنها: التلويح باعادة النظر في العلاقة الصينية الامريكية على المستويات الثنائية والاقليمية والعالمية.. ونحن نتعاطف انسانيا مع شعب التبت، وليس من حق أحد ان يعترض انسانيا على تكريم هذا الزعيم او ذاك. بيد ان (الانساني) ـ ها هنا ـ انما هو (غطاء للسياسي)، بمعنى ان الامريكيين يستغلون الدالاماي وقضية التبت ويوظفونها في الضغط السياسي والاستراتيجي على الصين لتحقيق اهداف معينة. وقد فهمت الصين هذا (البعد) ولذلك عارضت بقسوة هذا المهرجان الاحتفالي الانساني الملغوم بأهداف سياسية كبيرة.. وما دمنا في سياق (صك المصطلحات)، فان هذا السلوك الامريكي يندرج تحت مصطلح (التلاعب بالمبادئ والقيم الانسانية في سبيل الحصول على مكاسب سياسية امريكية).. فهذه الادارة غير صادقة ـ قط ـ في الشعارات التي تتاجر بها: شعار الحرية.. وشعار الديمقراطية.. وشعار حقوق الانسان: بدليل انها بمجرد ان تحصل على صفقة سياسية، تسكت عن الكلام المباح في هذه الشعارات: عن انظمة تغتال الحريات وحقوق الانسان. وانما كانت هذه العناوين من اجل الضغط المؤدي الى تحقيق مكاسب سياسية او امنية او استراتيجية فلما تحقق ذلك: حصل الرضا، وحصلت التزكية مع ان الانظمة هي هي، والزعماء هم هم!!.. والدليل الآخر على عدم المصداقية في هذه القيم والشعارات: ان هذه الادارة نفسها هي نموذج ضخم وسافر لاغتيال هذه المبادئ والقيم.. لقد اصدر الدكتور بيرتون جي لي الثالث: طبيب البيت الابيض الشخصي للرئيس جورج دبليو بوش، اصدر بيانا حادا جرم فيه انتهاك حقوق الانسان ـ في ظل هذه الادارة ـ ومما جاء في هذا البيان: «ترافقت التقارير المقدمة عن التعذيب الذي مارسته القوات الامريكية بدلائل تفيد ان افراد الهيئة الطبية العسكرية لعبوا دورا في هذه الاساءة وذلك طبقا لتوجيهات الارشاد الاخلاقي (الجديدة)!! التي تخول بالفعل افراد المهن الصحية ان يتواطأوا على سوء المعاملة للسجناء. فهذه التوجيهات الارشادية الجديدة تشوه القواعد الاخلاقية التقليدية بهدف خدمة اغراض المحققين لا خدمة الاخلاقية الطبية، ولا حقوق المعتقلين. ان التعذيب المنهجي الذي تقره الحكومة ويتلقى العون والتشجيع باسم مهنتنا الخاصة، عمل مرفوض. ويجب علينا بصفتنا من المهنيين الصحيين ان نساند الدعوات المتزايدة من اجل تشكيل هيئة مستقلة من الحزبين لكي تحقق في التعذيب الذي حدث في العراق وافغانستان وفي خليج غوانتنامو وغير ذلك من الاماكن، ولكي تطالب باستعادة المعايير الاخلاقية التي تحمي الاطباء والممرضين والممرضات والعاملين الطبيين والنفسيين من التحول الى ادوات تسهيل للاساءة والتعذيب. ان امريكا لا تستطيع الاستمرار في النزول الى هذه الهاوية. فالتعذيب يدل على الضعف، لا على القوة.. إنه ليس شرفا.. إنه رد فعل من مسؤولين حكوميين اكتسحهم الخوف واستسلموا لسلوك لا يليق بهم، ولا يليق بمواطنين من الولايات المتحدة».. من هنا، فإن (الغيرة) على حقوق الانسان هي غيرة مفتعلة: باعثها وهدفها: الضغط السياسي لتحقيق اهداف سياسية. ولهذا السبب: أصبح التلويح بهذه الحقوق: مصدر عداوة للادارة الامريكية، لا مصدر اعجاب وطمأنينة ومصداقية وكسب المزيد من البشر.. ونلتقي الآن بالواقعة الثالثة من وقائع (استراتيجية كسب العداوات).. ففي المدى الزمني نفسه (للتحرش) بالعالم والصين، حصل التحرش بروسيا عبر مواقف عديدة منها: موقف عقد مسؤولين أمريكيين اجتماعات مع معارضين في روسيا، ليس من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان بداهة، فلو وافق بوتين على نشر الدرع الصاروخية الامريكية على تخوم بلاده: لما جرت هذه الاجتماعات مع المعارضة الروسية، بل ربما حصلت (اتفاقات سرية) على كبتها في سبيل استراتيجية أعظم وأكثر حيوية!!.. ولهذه العوامل سخّنت القيادة الروسية الجبهة مع الولايات المتحدة، وقال بوتين: "إن روسيا بصدد اعداد أنظمة صواريخ نووية جديدة جدة كاملة".

ومن أتفه التفاهة ـ النفسية والعقلية والسياسية والاعلامية ـ: الادعاء بأن هذه (الصورة المظلمة المنفرة) عن الولايات المتحدة الامريكية قد كوّنها اعداء مناهضون لأماني الشعب الأمريكي وتطلعاته: أعداء يكرهون أمريكا بسبب (حريتها)، ذلك أن أمريكيين وطنيين أصلاء قد جهروا ـ في غير خفوت ـ بـ (حقيقة) أن امريكا تجلب العداوات الى نفسها ـ في ظل هذه الادارة ـ، وتصنع الازمات الثقال ولا تستطيع الخروج منها، وتشوه صورتها تشويها منكرا بيديها.

ولنصغ ـ بانتباه ـ وجد ومسؤولية وتعاطف ـ الى هذه الأصوات الأمريكية الوطنية التي تحترق غيرة وأسى على صورة بلدها ومصائره:

1 ـ «لم تعد عبارة (بوش يكذب) ذات جدوى وتأثير. فالوقت قد حان كي نواجه واقعا أكثر قتامة يتمثل في اننا نكذب على أنفسنا ـ ان مسارنا الأخلاقي بخصوص سنوات بوش لا يمكن أن نصوره بطريقة أفضل من لقاء مجموعة من القوات الخاصة من الحرب العالمية الثانية يزيد عددهم على 20 شخصا في واشنطن هذا الشهر، كانوا قد شاركوا في عملية سرية للتحقيق مع 4 آلاف سجين نازي في الحرب. وقد ظلوا صامتين حتى الآن، ولكن سجل أمريكا الأخير في هذا المجال دفعهم الى البوح والتصريح لـ (واشنطن بوست). قال هنري كولم (90 عاما) وهو فيزيائي في إم اي تي: «حصلنا على معلومات أكثر من جنرال ألماني خلال مباراة للشطرنج أو كرة المنضدة أكثر مما يفعلونه عن طريق التعذيب.. وكان كولم هذا يباشر التحقيق مع نائب هتلر: رودولف هيتس».. الكاتب الأمريكي: فرانك ريتش «الشرق الأوسط» 10/10 ومعنى كلام هنري كولم: ان التحقيق مع قادة النازيين كان أعدل وأطلق وأكثر فائدة من التعذيب الوحشي الذي تمارسه الادارة الحالية مع الأسرى والمعتقلين من كل جنس!!

2 ـ «وضعت ادارة الرئيس بوش استراتيجية عسكرية منذ بداية توليها السلطة عام 2000 تتضمن شن حروب ضد سبع دول في الشرق الأوسط وذلك لتغيير الأنظمة القائمة فيها بالقوة العسكرية. ولم يكن غزو العراق إلا خطوة على طريق تنفيذ تلك الاستراتيجية التي وضعها المحافظون الجدد بعد سيطرتهم على الدوائر المهمة لصنع القرار في البنتاجون، ومجلس الامن القومي والبيت الأبيض.. لقد التقيت بول ولفوتز عام 1991 وقال لي في ذلك اللقاء: نحن لم نتعلم شيئاً على قدر كبير من الأهمية وهو انه بعد نهاية الحرب الباردة يمكننا استخدام القوة العسكرية دون عواقب لان السوفيت لن يأتوا لمنعنا.. أمامنا خمس أو عشر سنوات لتنظيف منطقة الشرق الأوسط من الأنظمة البالية وذلك قبل ان تظهر قوة عظمى جديدة تتحدانا».. الجنرال الامريكي المتقاعد: ويسلي كلارك الذي شغل منصب القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي.. في كتابه: (زمن القيادة: من أجل الواجب والشرف والوطن).

3 – «ان القادة السياسيين الامريكيين: فاسدون، وغير أكفاء، ومستهترون في اداء مسؤولياتهم وواجباتهم، ولو كان هؤلاء السياسيون في الخدمة العسكرية لأحيلوا إلى المحاكمة.. ان امريكا تعيش كابوساً في العراق. فقادتنا الوطنيون اظهروا عدم كفاءة كبيرة على الصعيد الاستراتيجي. فالإدارة والكونجرس وكل الوكالات الحكومية وخصوصاً وزارة الخارجية يجب ان يتحملوا مسؤولية هذا الفشل الكارثي كما يجب على الشعب الامريكي ان يحاسبهم على ذلك.. والحقيقة المؤلمة: انه لا شيء يجري في واشنطن يمكن ان يثير لدينا أملا".. الجنرال الأمريكي المتقاعد ريكاردو سانشيز. قائد قوات التحالف في العراق عام 2003.

حقائق ووقائع مذهلة، بل مرعبة صدع بها أمريكيون صدعا عبر عن مخاوفهم البالغة على وطنهم، كما عبر عن آمالهم في تغيير ما. فقد طالب بريجنسكي بـ (جراحة عميقة وعاجلة) للسياسة الخارجية الامريكية. فالمسكنات ـ في تقديره ـ لا تصلح ولا تجدي.

ولكن يبدو ان المحافظين الجدد، أو من بقي منهم مصرون ان يقتلوا أنفسهم، وأن ينزلوا أفدح الأضرار ببلادهم.

فهل يعتبر حكام المنطقة؟.. أم انهم يريدون ذات المصير الذي يريده من بقي من المحافظين الجدد؟

ان العقل يقول: لا.. والمصلحة تقول: لا.. والغريزة تقول: لا: لشعار (لنسقط متحدين).