بوتو والعودة إلى الديار

TT

أحياناً يبدو الاحتفال حزناً أنيقاً، هكذا تبدت لي رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة وهي تبتسم باقتصاد أمام الآلاف من أنصارها في كراتشي، التي عادت إليها قبل يومين في ظل أجواء لا تقل غموضا من الناحية السياسية عما كان عليه الوضع قبل شهر، ملامحها تلك ذكرتني بالجنازة الصينية الأسطورية التي صورها ببراعة المخرج الصيني «زانغ يمو» في رائعته السينمائية «العودة إلى الديار»، رجال أنيقون يحملون نعشاً خشبياً في البرد القارس، ويهمسون بأحاديث وأغنيات تبدو مألوفة، لأنهم لا يريدون لأمواتهم أن يضلوا طريق الديار حتى إذا ما ألهبهم الحنين عادوا، ليلقوا تحية المساء، أو ليتناولوا وجبة ساخنة. كل ما يشي بـ«القلق» حاضر في باكستان مشرف اليوم، الفوضى التي كان النظام يستثمرها في سبيل دعم موقفه في ملف محاربة الإرهاب، الذي أصبح مرادفاً سياسياً للشرعية التي تأتي من الخارج، إلا أن عودة بوتو من «الغيبة» الكبرى سيكون كفيلاً بتحويل ذلك القلق إلى استحقاقات سياسية تطال الحزب الحاكم، بعد أن فشل في الحصول على أي دعم شعبي لسياسته بعد المنعطف الخطير، حين حاول وفشل بإقالة رئيس المحكمة العليا الذي راكم من حجم معارضة الشارع، مما جعله يلجأ إلى «استقدام» بوتو بهدف تقاسم السلطة وفق رؤيته الخاصة، في حين أن شراكة سياسية كتلك محفوفة بالمخاطر والفشل السريع في ظل وجود ملفات شائكة كالحظر الدستوري لتولي منصب رئيس الوزراء لأكثر من ولايتين، إضافة إلى الصلاحيات الخاصة التي تخول رئيس البلاد إقالة الحكومة.

وبدل أن تتحول هذه الملفات إلى مصدر للقلق والتفكير في مستقبل باكستان، فإن خطاب الثقة السياسي لم يمنح بالمجان كما يتم طرحه الآن داخل باكستان. والسبب يرجع إلى أن التنافس الشرس بين الحزب الحاكم وبين حزب بوتو بعد أن أصبح محدد الهدف وهو استرضاء الخارج طمعاً في كسب الشرعية. وإذا كانت الولايات المتحدة لاتزال تدعم دور الجنرال مشرف في إطار «الحرب على الإرهاب»، رغم القلق المتنامي من نقص الديمقراطية في باكستان، إضافة إلى تراجع شعبية الجنرال مشرف، الأمر الذي انعكس على قدرته إيجاد أية نتائج ملموسة في حربه على الإرهاب، أو خلق فرص لإصلاحات سياسية حقيقة، ومع ذلك فإن بوتو العائدة من منفاها بحماسة عالية، وبقاعدة شعبية لا تزال تؤمن بها، فإنها لا تبدو بأحسن حال من الحزب الحاكم رغم كل ما يقال عن ليبراليتها، التي قد تشفع لها في استقطاب أنظار ودعم «الخارج» إليها، بهدف إعطائها الفرصة لكبح جماح موجات التطرف والتشدد في باكستان. فهشاشة فرص بوتو مكفولة بمدى التلاعب بالقانون، حيث لا تزال معرضة للاعتقال في حال قضت المحكمة العليا بأن العفو الصادر بحقها إجراء غير قانوني، وهذا أمر محتمل جداً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المزاج الشعبي في الشارع الباكستاني في أسوأ حالاته. فعموم الناس الذين لا يرون في القاعدة مسألتهم الخاصة، قد ملوا من السياسة والسياسيين وتحولوا في أنظارهم إلى شياطين جشعة لا تفكر سوى في مصلحتها الخاصة.

نقطة الالتقاء بين مشرف وبوتو لم تأت نتيجة تراكم سياسي يمكن أن يبنى عليه حد أدنى من المصلحة المشتركة بل جاء بناء على الاتفاق على استبعاد خصم ثالث وهو نواز شريف المعزول إثر إنقلاب عسكري عام 1999م لقي ترحيباً كبيراً من قبل بوتو على أمل أن يساهم ذلك في تعزيز موقعها ولو بمنصب وزاري، إلا أن تهم الفساد كانت جاهزة لتلقي بها في المنفى بعيداً عن أية مشاركة ولو رمزية.

هناك استياء بالغ في باكستان لا يرى عادة بالعين الغربية، فالتيارات السياسية المشكلة حديثاً من ناشطين اجتماعيين وتكنوقراط، وهم ليسوا بالضرورة متماهين مع القاعدة، باتت تكافح من أجل حماية الدستور وضرورة أن يكون هناك ميثاق عام للفصل بين السلطات، وفي أجواء لاهبة كتلك فإن أية إجراءات عسكرية أو أمنية تجاه الشارع، ستكون ولا شك من قبيل صب الزيت على النار، وربما قسر هذه الفئات الجديدة من التفكير صوب ورقة «القاعدة»، بما تعنيه كل هذه الورقة من دمار وقلاقل وانهيارات أمنية.

إن التعويل على ليبرالية «بوتو» التي يتم تلميعها الآن بوصفها علاجاً سحرياً لأزمة الحدود والتفاوض مع طالبان، هو جزء من مسلسل الهروب من الأزمات المكررة والمتشابهة، بسبب بذور الإدارة السيئة للحرب على الإرهاب... الإرهاب الذي تحول في مناطق التوتر إلى خمرة النواسي داء أعوزه الطبيب وأحياناً دواءٌ لكسب الشرعية ودعم الخارج !

[email protected]