كثرة الطهاة..

TT

لم تبق دولة في العالم تعتبر أن لها كلمة مسموعة في قاموس الشرق الأوسط الدبلوماسي إلا وجربت حظها بمبادرة وساطة «توافقية» في أزمة لبنان الداخلية (ظاهرا) حتى بات اللبنانيون يعتقدون عن حق أنهم محور الكون وربما علة وجوده.

مشاعر «الميغالومانيا» ليست جديدة على العديد من اللبنانيين. مع ذلك، وقبل أن ينغرّوا بالاهتمام الدولي بشؤونهم، لا بد من أن يتذكروا أنه لم يكن واردا، ولا مطلوبا، لو لم يكونوا قاصرين عن معالجة شؤونهم الداخلية بأنفسهم... ولو لم يكن العالم مقتنعا بأن «المعالجة» اللبنانية الصرف للشؤون الداخلية غالبا ما تكون باللجوء إلى السلاح.

وقد ينفع أن يتذكر اللبنانيون أنهم، على مدى الستمائة سنة المنصرمة، أي منذ بداية عهد الإمبراطورية العثمانية إلى نهاية عهد الوصاية السورية المباشرة ـ لم يختبروا «الاستقلال» (النسبي طبعا) في اتخاذ قرارهم السياسي لأكثر من سنوات معدودة (ربما بين عامي 1945 و1978). وعليه، إذا كان ثمة دافع أساسي لاهتمام الخارج بالشأن اللبناني الداخلي فقد يكون ذلك الشعور الباطني بأن اللبنانيين لم يبلغوا بعد سن الرشد، الأمر الذي تؤكده مفردات خطابهم السياسي ولهجة التهديد والتهويل في تصريحات العديد من «ممثليهم».

ولكن للاهتمام الدولي بعدا خارجيا أيضا يدركه اللبنانيون، فانتخاب رئيس جمهورية لعشرة آلاف كيلومتر مربع من أرض الشرق الأوسط لم يصبح الشغل الشاغل للأسرة الدولية لولا تقاطعه مع معطيات إقليمية تؤثر، وان بنسب متفاوتة، على دول المبادرات التوافيقية نفسها والأدوار التي تصبو إلى لعبها في المنطقة.

دول الاتحاد الأوروبي ـ وان كانت لا تبدو مغردة خارج السرب الأطلسي ـ تبني وساطتها على أولوية العلاقة المتوسطية (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط) مع لبنان على العلاقة الأطلسية (الأميركية) معه وعلى مشاركتها الميدانية في قوات الـ«يونيفيل»...على أمل أن تجني من وساطتها مكسبا جانبيا يتمثل بتعزيز كلمتها في القرار الأطلسي المستقبلي في المنطقة.

أما الولايات المتحدة فتأمل من وساطتها أن تعوض عثرات إدارة جورج بوش في العراق بنصر معنوي يتمثل، سياسيا، بشد عود «الديمقراطية الفتية» في لبنان، وعسكريا، بتعزيز قدرات جيشه الشرعي على أمل أن يكسر احتكار حزب الله للسلاح الحديث ويهمشه على المدى الطويل.

تركيا، الخارجة من معركة سياسية خاسرة مع الولايات المتحدة حيال موضوعي مجزرة الأرمن (بصرف النظر عن موقف إدارة بوش منها) واجتياح الأراضي العراقية لاستئصال مقاتلي حزب العمال الكردستاني منها... تتوخى من عرض خدماتها التوسطية إرضاء حليفها الإقليمي المستجد، سورية، من جهة، وإبلاغ واشنطن، في الوقت ذاته، أنها قادرة على القيام بتحرك دبلوماسي «مستقل» في الشرق الأوسط.

أما سورية وإيران، وعلى اعتبارهما من «أهل البيت» في لبنان، فإن أسلوب تعاملهما مع الشأن الداخلي اللبناني لا يعتبر «وساطة» بقدر ما هو تدخل مباشر عبر «وكيلهما المعتمد» محليا.

ولكن، رغم تطابق استراتيجية دمشق وطهران على المدى الطويل حيال الشأن اللبناني، لا تخلو مقاربتهما التكتيكية من بعض التباين، فبقدر ما تظهر سورية أنها مستعجلة على إعادة وصايتها على لبنان بأي ثمن كان، تبدو إيران متمهلة في دعم هذه العودة بانتظار حسم أولويتيها الملحتين: ملفها النووي العالق مع واشنطن، ومعركة «تشييع» العراق الدائرة حاليا بتسميات سياسية مختلفة. والهدفان يستوجبان مهلة «التقاط أنفاس» في لبنان (هذا قبل استقالة كبير مفاوضي إيران في الملف النووي، علي لاريجاني، وإحكام الرئيس أحمدي نجاد سيطرته على الدبلوماسية الإيرانية).

باختصار، كثر «الطهاة» في لبنان... وكثرتهم غالبا ما تفسد الطبيخ.

ولكن إذا كان اللبنانيون يخشون فعلا أن يعد لهم كبير الطهاة في المنطقة ـ الـ Chefحسب التعبير المهني ـ الطبخة التي لا يشتهونها (وهو في نهاية المطاف مالك المكونات والبهارات اللازمة لإنضاجها)، فقد بات على «أكلة الجبنة» في بلدهم (حسب تعبير الرئيس الراحل فؤاد شهاب) أن يتذكروا أن «حواضر» المطبخ اللبناني أقرب إلى معدتهم، وأنها تغني عن الاستعانة بأمهر طاه أجنبي.

... فهل تكون اللقاءات المارونية ـ المارونية الأخيرة بداية العودة إلى المطبخ اللبناني؟