تركيا: أزمة الأكراد ليست طارئة.. والحل ليس بالقوة العسكرية

TT

حتى لو تمكن الأميركيون من استيعاب «تسونامي» حـزب العمال الكردستاني ـ التركي، الذي ركب موجته الرئيس السوري بشار الأسد عندما أعلن من أنقرة أنه من حق القوات التركية القيام بمطاردة ساخنة داخل الأراضي العراقية لقوات هذا الحزب، وحتى لو استطاع الجيش التركي اجتياح المناطق التي توجد فيها ميليشيات الـ«P.K.K»، فإنه من المستبعد إنهاء هذه الظاهرة التي تتكئ على تاريخ أكثر من مائة عام بقي خلالها أكراد تركيا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية وممنوع عليهم إشهار هويتهم القومية.

إنه أمر متوقع وطبيعي أن يتحرك الأميركيون بسرعة ويحاولوا استيعاب هذه الأزمة الطاحنة التي إن هي تفاقمت فإنها ستغرقهم في مستنقعات هذه المنطقة أكثر مما هم غارقون.

إنه من المؤكد أن الأميركيين بادروا إلى هذا التحرك السريع لاستيعاب هذه الأزمة قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة، وذلك لإدراكهم أن دخول الرئيس بشار الأسد على هذا الخط هو دخول لإيران على الخط ذاته وكل هذا من أجل تحويل كردستان ـ العراق إلى فيتنام أخرى ولكن صغيرة، لإلحاق هزيمة جديدة بأميركا ستكون إن هي حصلت بالفعل هزيمة هذا القرن الجديد لأكبر وأعظم وأهم قوية كونية.

ما دفع الأميركيين إلى التحرك وبهذه السرعة وإعطاء تنازلات ميدانية للقوات التركية، وإن على أعماق حدودية متفاوتة ومحدودة، هو قناعتهم بأن كثيرين من بينهم الرئيس بوتين، وبالطبع الرئيس الإيراني نجاد وحليفه بشار الأسد، لن يفوتوا هذه الفرصة، وأنهم جميعهم سيعملون على أن تغرق القوات الأميركية في مستنقع جديد.

ما كان من الممكن أن يترك الأميركيون النيران تشتعل في طرف مهم من أطراف هذه المنطقة، ولذلك فإنهم تحركوا بسرعة واستغلوا علاقاتهم التحالفية الجيدة، التي لم يصبها أي اهتزاز حتى بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة، مع الجنرالات الأتراك الذين كانوا هم أنفسهم بانتظار وقوع أزمة كهذه الأزمة حتى يعودوا إلى خنادقهم السياسية السابقة التي انتزعها منهم «الإسلام ـ الليبرالي» بقيادة عبد الله غول وطيب رجب أردوغان وحتى يؤكدوا للشعب التركي أن بقاء تركيا قوية ومقتدرة وموحدة وقوة إقليمية مهيبة الجانب مرتبط بهم وببقائهم في هذه الخنادق.

الأميركيون يعرفون هذا، ولكن ولخشيتهم من أن خيوط اللعبة قد تفلت من أيديهم ومن أيدي إسلاميي تركيا الممثلين بحزب العدالة والتنمية وأيضاً من أيدي الجنرالات الأتراك وأيدي قادة كردستان العراق فقد تحركوا بسرعة ومارسوا ضغوطاً متفاوتة الشدة على كل الإطراف المعنية الأميركيون يعرفون أيضاً أن الأتراك الذين أغضبهم قرار الكونغرس الأميركي الأخير المتعلق بمذبحة الأرمن الشهيرة خلال الحرب العالمية الأولى ربما هم الذين بادروا إلى الرد على هذا القرار من قبيل «العين بالعين والسن بالسن»، وبهذه الطريقة، ولإشعار واشنطن أن أنقرة قادرة بدورها على «الدَّوْس» على أطراف أصابع رجلها وأنه باستطاعتها من خلال تأجيج أزمة وجود قواعد لحزب العمال الكردستاني في كردستان ـ العراق فتح جبهة استنزاف جديدة لقواتها المنتشرة في العراق وأفغانستان.

لكن ورغم كل هذا، فإن ما يجب أن يأخذه كل أطراف هذه المعادلة بعين الاعتبار هو أنه حتى وإن استطاع الأميركيون استيعاب هذه الأزمة المتفجرة والسيطرة عليها وحتى إن هم سمحوا للجيش التركي بتوغل محدود داخل الحدود العراقية يحفظ له هيبته وماء وجهه ويعزز مكانته في المعادلة التركية الداخلية، فإن هذا لن يكون وفي أحسن الأحوال إلا بمثابة استراحة مؤقتة بين شوطين فالمشكلة بالأساس هي مشكلة النزعة القومية بالنسبة لأكراد تركيا الذين باتوا يشعرون مثلهم مثل أشقائهم في العراق وإيران بأن لحظة التخلص من آلام الماضي حانت، وأنه وإن تأخر الوقت فإنه بات من الممكن الآن إن ليس إقامة الدولة الكردية الواحدة المنشودة فعلى الأقل الحصول على حق المواطنة الكامل.

إنه جرحٌ ملتهب قديم، ولذلك وحتى وإن جرى استيعاب هذه الأزمة، التي يعتقد البعض أنها «طارئة»، ويرى آخرون أنها «مفتعلة» وتأتي في إطار تبادل اللكمات الموجعة بين أطراف المعادلة التركية الداخلية، فإن ما هو مؤكد وهذا يجب أن يفهمه الأتراك كلهم، إسلاميين وعلمانيين، أنه وحتى وإن تم اقتلاع قواعد حزب العمال الكردستاني ـ التركي من جبال قنديل في كردستان العراق، فإن هذه الأزمة لن تنتهي. والسبب أنها تتعلق بحقوق قومية ووطنية وحتى إنسانية لأكثر من خمسة عشر مليون كردي ـ تركي يشعرون بأن حقوقهم مهضومة بل مستباحة.

وهنا ولمزيد من التأكيد على حقيقة أن ما يجري ليس مشكلة بضعة آلاف من المتمردين بل مشكلة جماعة قومية ـ تركية كبيرة تشعر أنها منتقصة الحقوق، وأن ظلماً تاريخياً بقي يطاردها لنحو مائة عام، فإنه لابد من الإشارة إلى أن هؤلاء الذين يقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف مسلح، والذين ينتشرون الآن في أدغال جبال قنديل في كردستان ـ العراق ولهم قواعد ثابتة فيها هم مجموعات منشقة عن حزب العمال الكردستاني ـ التركي بقيادة شخص اسمه مراد قره إيلان.. و«قره إيلان» هذه تعني باللغة الكردية (البهدنانية) الحية السوداء!

لقد انشق هذا الحزب أي الـ« P.K.K»، الذي تأسس في السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1978 وباشر العمل المسلح بنحو عشرة آلاف مسلح؛ معظمهم تدربوا في منطقة البقاع اللبناني في معسكرات الجيش السوري، ومعسكرات بعض الفصائل الفلسطينية الموالية لسوريا عام 1984،.. لقد انشق هذا الحزب على نفسه بعد اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان المعتقل الآن ليس في أنقرة وإنما في جزيرة من جزر بحر مرمرة قبالة مدينة اسطنبول، منذ إلقاء القبض عليه في نيروبي في الخامس عشر من فبراير (شباط) عام 1999 في إطار صفقة سورية ـ تركية معروفة.

بعد اعتقال أوجلان في هذا التاريخ المشار إليه آنفاً وبعد الحكم عليه بالإعدام الذي تم تخفيفه إلى السجن المؤبد حلَّ محله قائداً لحزب العمال الكردستاني ـ التركي شقيقه الأصغر عثمان أوجلان الذي تفادياً لإدراج اسمه على قوائم الإرهابيين قام بحل هذا الحزب وإنشاء حزب آخر هو

«مؤتمر الحرية والديموقراطية الكردستاني» (كاديك) لكنه وللسبب ذاته ما لبث أن غير اسم هذا الحزب مجدداً ليصبح منذ نوفمبر عام 2003: «المؤتمر الشعبي الكردستاني»، Kongragel لكن ولأن هذا الاسم الجديد ما لبث أيضاً أن أدرج على قوائم الإرهاب فقد تركه أصحابه، وذهب كلٌّ في طريقه واختفت هذه الظاهرة منذ ذلك الوقت وحتى يونيو (حزيران) عام 2004.

في يونيو عام 2004 وبعد أن ساد اعتقاد بأن الصفقة التركية ـ السورية أنهت عمل الميليشيات الكردية المسلحة ضد الجيش التركي تفاجأ الأتراك ومعهم أهل هذه المنطقة والعالم كله بظهور تنظيم عسكري جديد بدأ عمله بسلسلة من العمليات الفدائية المؤثرة، منطلقاً من مناطق الحدود مع كردستان العراق تحت اسم: «صقور الحرية بكردستان» لكن تركيا قالت، وهي تقول الآن إن هذا التشكيل هو استمرار، وإن تحت «لافتة» جديدة للحزب القديم أي حزب العمال الكردستاني ـ التركي.

وهذا يؤكد أن المشكلة ليست مشكلة حزب طارئ وعابر ولد في أقبية مخابرات دولة مجاورة في زمن صراع المعسكرات والحرب الباردة ولا مشكلة تنظيم إرهابي محدود العدد يقوده مراد قره إيلان (الحنش الأسود) يمكن القضاء عليه ويذهب فرق حسابات بين أطراف المعادلة التركية والمعادلة الإقليمية في هذه المنطقة.. إن هذا يؤكد أن المشكلة مشكلة الأكراد ـ الأتراك الذين تشير بعض التقديرات إلى أن عددهم يزيد عن ستة عشر مليون نسمة، والذين لا يمكن حل مشكلتهم إلا بإعطائهم حق المواطنة الكاملة وإعطائهم ولو الحدود الدنيا من حقوقهم القومية.. والحقيقة أن السياسات التي يتبعها حزب العدالة والتنمية تبشر بالخير وتشير إلى أن هناك إمكانية فعلية لهذه الأزمة التي تتداخل مع أزمات إقليمية متفجرة كثيرة!!.