السودان: حقيقة بطاقات الإنذار بين المؤتمر والحركة الشعبية

TT

اختار الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل عنوانا شهيرا حمل: ثم ماذا بعد في السودان.. لمقالته المثيرة للجدل علم 1964 وهو يخضع ثورة أكتوبر الشعبية في السودان للنقد والتحليل. تذكرت العنوان والسودان يدخل هذه الأيام في مرحلة مفصلية، وذلك بعد تجميد الحركة الشعبية مشاركتها في الحكومة المركزية. والخيار هنا أصبح إما أن يتغلب العقل والحكمة وتستمر الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وإما أن تنهار اتفاقية السلام الشامل بما يحمل ذلك من عواقب وخيمة على السودان.

جاء توقيت تجميد المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية والحكومة تستعد للدخول في مفاوضات مع فصائل المتمردين في دارفور، ورغم أن الحركة الشعبية أنكرت أن مثل هذا التوقيت كان مقصوداً، إلا أن النتيجة تظل واحدة، وهي أن الشماليين لا يلتزمون بالعهود التي قطعوها والمواثيق التي عقدوها. وإذا أضفنا إلى ذلك اتهامات فصيل مناوي بأن الحكومة قصفت قواته في مهاجرية، وتهديدات الناطق الرسمي للفصيل بأن اتفاقهم سينهار إذا تكررت مثل هذه الأحداث، وستعود الحرب أشرس مما كانت عليه؛ وهنالك عدد من الاتفاقيات التي وقعها المؤتمر الوطني مع أحزاب شمالية وكلها لم تنفذ مثل اتفاقية جيبوتي مع الصادق المهدي واتفاقية القاهرة مع محمد عثمان الميرغني. وقديماً خرق نميري الاتفاق الذي وقعه مع أنانيا 1972 بأديس أبابا كما جاء موثقاً في كتاب مولانا أبل ألير «التمادي في نقض المواثيق والعهود». ولعله من المفارقات أن ينظر الكثير من المراقبين للسيد أبل ألير للتوسط بين طرفي النزاع ومحاولة الإصلاح بينهما وذلك لما عرف عنه من حكمة وخبرة وحنكة ووطنية وتجرد.

لم يكن رد فعل المؤتمر الوطني موفقاً، إذ إنه جاء حاداً ومتطرفاً ومبرراً خرق اتفاقية السلام بأن الحركة نفسها خرقتها بأكثر مما فعل، معترفاً ضمنياً بأنه قد قام بخرق الاتفاقية، ولكن هذا التبرير غير مقبول إذ ان أخطاء الآخرين لا تبرر لك أخطاءك.

الحركة الشعبية محقة في أن المؤتمر الوطني قام بخرق الاتفاقية في عدة محاور:

* نصت اتفاقية السلام على ضرورة التحول الديمقراطي واستحقاقات هذا التحول هي إلغاء القوانين المقيدة للحريات ومنها حرية الصحافة والتجمع، وتسير المواكب السلمية والحرية النقابية. وكل ذلك لم ينفذ منه شيء إذ ما زالت الصحافة مكبلة بالقوانين، ولا يسمح بتسيير مواكب سلمية إلا تلك التي يسيرها الحزب الحاكم، بل إن موكب الاحتجاج على زيادة أسعار بعض السلع الضرورية تم التعامل معه بقسوة شديدة من قبل الشرطة، فتم اعتقال بعض قادة الموكب وتقديمهم لمحاكم عاجلة أصدرت في حقهم أحكاماً بالسجن رادعة، ولم يسمح للعاملين بتكوين نقابات مطلبية خاصة بهم، والنقابات المسموح لها بالعمل النقابي هي ما تسمى بنقابة المنشأة ، وهي في المهن الطبية، وتضم مثلا كبار الأخصائيين ونوابهم والأطباء العموميون وأطباء الامتياز و«السترات» والممرضين والممرضات والعمال والسائقين...الخ. ومثل هذه النقابة لا يمكن أن تكون مطلبية وذلك لأنها تضم في عضويتها من لهم مصالح مختلفة ومتباينة ومطالب متنوعة. أما اتحاد عمال السودان والذي يضم كل العاملين بالدولة من عمال وموظفين وأطباء ومهندسين وأساتذة جامعات ومعلمين، فهو فقط المسموح له بالعمل النقابي، وهو موال للحزب الحاكم ويرأسه بروفسور في طب الأسنان وقام بتجميد كامل للعمل النقابي بشقيه المطلبي والسياسي عدا إصدار بيانات التأييد للحكومة.

المؤتمر الوطني ظل ينفرد باتخاذ القرارات رغم أن الاتفاقية تنص على ضرورة استشارة الحركة الشعبية قبل اتخاذ القرار. والأمثلة على ذلك كثيرة منها رفضهم للقوات الدولية في دارفور قبل تراجعهم والموافقة على قوات الهجين وإبعادهم لممثل الاتحاد الأوربي في السودان وغير ذلك من القرارات، وظل الحزب الحاكم يستهين بالحركة الشعبية ويمعن في تهميش وزرائها. ومثال ذلك انه عندما أعرب وزير الدولة للعمل د. محمد يوسف، وهو من وزراء الحركة الشعبية على ضرورة عودة المفصولين للصالح العام إلى أعمالهم، وتحدث عن حق العاملين في تكوين نقاباتهم، وهذا من صميم عمله كوزير للعمل، وينسجم تماماً مع اتفاقية السلام، تجرأ أحد صغار الموظفين في ذات الوزارة بالتصريح بأن الرجل لا يمثل الوزارة، وان كل أقواله ما هي إلا تعبير عن قناعاته الشخصية. وبلغت الاستهانة بالحركة الشعبية ذروتها عندما اقتحمت الشرطة دور الحركة الشعبية بحجة جمع السلاح، تم ذلك بدون التنسيق وبدون علم شريكهم في السلطة، وبدون علم وزير الدولة بوزارة الداخلية عضو الحركة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة الشعبية وفي مفاوضاتها مع المؤتمر الوطني حول اقتسام السلطة، رضيت باقتسام الوزراء وفاتها أن العاملين في تلك الوزارات ابتداء من أمينها العام (الوكيل) وحتى أصغر الموظفين، يدينون بالولاء للمؤتمر الوطني، وكل من لا يدين بالولاء للمؤتمر الوطني تم إبعاده بالفصل من الخدمة للصالح العام. بل إن احد وزراء الحركة الشعبية أعفى الأمين العالم في وزارته، لكن الرجل لم يمتثل لذلك القرار محتجاً(وهو محق) بأن الوزير لا يملك حق إقالته لأنه لم يقم بتعيينه، بل جاء تعيينه من رئيس الجمهورية، وهو فقط الذي يملك حق إقالته. وتراجع الوزير عن قرار الإعفاء.

* ومن خروقات المؤتمر الوطني لاتفاقية السلام كذلك عدم انسحاب قوات الجيش الحكومي من مناطق البترول وعدم ترسيم الحدود، وتبقى فقط مشكلة أبيي وهي مسألة غاية في التعقيد، إذ لا يملك المؤتمر الوطني الاستجابة فيها لمطالب الحركة الشعبية، لأن هذه الاستجابة قد تصطدم بالرغبة الحقيقة لسكان المنطقة، مما قد تنجم عنه صراعات قبلية تكون البلاد في غني عنها. فقضية أبيي تحتاج لجهود حثيثة ومضنية من طرفي الاتفاقية، بل قد تحتاج كذلك لتحكيم دولي محايد وعادل.

* وهنالك أيضاً مطالبة الحركة الشعبية بشفافية التعامل مع البترول والإعلان عن الكميات الحقيقية المنتجة والدخل المتحصل عليه من بيعه وأوجه صرفه.

* أما القشة التي قصمت ظهر البعير فهي عدم موافقة المؤتمر الوطني على التعديلات الوزارية التي تقدمت بها قيادة الحركة لوزرائها في حكومة الوحدة الوطنية، ومما لا شك فيه أنها تملك هذا الحق. ولكنه عدّل عن ذلك فاستجاب للتعديلات في ما عدا واحد أو اثنين منها، ولكن الحركة تشددت لتقول إن التعديلات ليست وحدها سبب التجميد فهناك المطالب الأخرى.

* ثم ماذا بعد؟ لعل انتفاضة الحركة الشعبية (إن جاز لنا أن نصنف غضبتها المضرية هذه كانتفاضة) تندرج تحت باب «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» وذلك إذا توفر حسن النوايا للطرفين وجلس العقلاء منهم لمعالجة خروقات اتفاقية السلام من الجانبين، لأنه وقبل هذه الأزمة كان هنالك اتفاق غير مكتوب بين دعاة الانفصال في المؤتمر الوطني ودعاة الانفصال في الحركة الشعبية بغض الطرف عن خروقات بعضهم بعضاً لاتفاقية السلام في المجالات التي لا تمس منطقتهم. فانفصاليو الحركة الشعبية لا يهتمون كثيراً بالتحول الديمقراطي في شمال السودان، رغم أنه جاء كاستحقاق أصيل في اتفاقية السلام، حتى أن بعضهم صرح بأن على الشماليين ألا يتوقعوا من الحركة الشعبية أن تخوض المعارك نيابة عنهم، وفي الجانب الآخر فإن انفصاليي المؤتمر الوطني يغضون الطرف عن ممارسات حكومة الجنوب التي تخرق اتفاقية السلام خرقاً واضحاً وقاصماً مثل توليها السلطات الجمركية بين الجنوب والدول المحيطة به، ومثل المضايقات التي يعاني منها الشماليون في الجنوب وخاصة التجار منهم، بل استيعاب اليوغنديين كمدرسين في مدارس الجنوب وتفضيلهم على المدرسين الشماليين، وحتى على المدرسين الجنوبيين الذي عاشوا في شمال السودان. فالحركة تنظر لهؤلاء الجنوبيين بكثير من الشك والريبة، وتصنفهم كطابور خامس للشمال.. كل هذه الممارسات من حكومة الجنوب لا تجد غضاضة من انفصالي المؤتمر الوطني لأنها ممارسات في بلد مستقل منفصل عن الشمال باعتبار ما سيكون.. أقول إذا كان من نتائج هذه الأزمة مراجعة كل هذه الممارسات في الشمال والجنوب، فإن الحصيلة ستصب لمصلحة المواطن ولوطن تعلو فيه قيم الوحدة والديمقراطية والحرية والكرامة وحقوق الإنسان.

* كاتب وأكاديمي سوداني