رسالة حضارية من مهد الإسلام.. إلى الغرب.. يحملها الملك السعودي

TT

لئن ختم الكاتب الانجليزي اللامع جدا: تشارلز ديكنز (1812 ـ 1870م).. لئن ختم الفصل العشرين من رائعته (قصة مدينتين) بهذه العبارة:«تعال معي الى الحجرة المجاورة كي نتفاهم على انفراد» فإن تشارلز المعاصر، أي ولي عهد بريطانيا: لم يشأ التفاهم على انفراد في غرفة محدودة، بل أراد التفاهم علانية، وعلى مستوى عالمي، فاخترق ـ بصوت عال ـ (حاجز الصوت الحضاري). فبعد مرور ما يزيد على قرن من كلمة ديكنز، ألقى الامير تشارلز عام 1993 محاضرة عن الاسلام والغرب قال فيها: «ان للعلاقة بين العالم الاسلامي والغرب اهمية متزايدة لا سيما في هذه الحقبة التي تشهد مزيدا من سوء التفاهم بين العالمين والتي تشهد في نفس الوقت انفراجا عالميا. لقد خلط الغرب بين أمرين لا ينبغي الخلط بينهما وهما: الاسلام والتطرف. فالاسلام دين الوسطية والاعتدال. وكان رسول الاسلام نفسه يكره التطرف. وعلى كل حال فالتطرف ظاهرة ليست حكرا على المسلمين، فهناك فئات متطرفة في شتى الامم. ثم ان الغرب حاول تشويه الاسلام عن طريق سوء الفهم لتطبيق الشريعة الاسلامية التي هي عدل ورحمة، وسوء الفهم لحقوق المرأة في الاسلام وهي حقوق سبقت بها حقوق المرأة عندنا بقرون. كذلك تم التشويه عن طريق تجاهل اسهامات المسلمين في بناء الحضارة الغربية.. وعلينا ان نتعرف على وجهة نظر العالم الاسلامي فينا. فهذا العالم لا ينظر الى مادية الحضارة الغربية بارتياح، بل ينظر بقلق الى الخلط بين (التحديث) التقني لوجه الحياة وبين اصرار الغرب على ان تكون حياة المسلمين مطابقة للحياة الغربية، وعلى الرغم من كل شيء لا بد من التفاهم».. وقد علقنا على هذه المحاضرة في حينه، في هذه الجريدة: تعليقا عَرَفَ للرجل قدره ونبله وفضله وعدالته ونزاهته وشجاعته.. ولا يشكر الله من لا يشكر الناس، سواء كان الناس مسلمين او غير مسلمين.

ومن الظواهر البديعة المبشرة في الاجتماع البشري أو الحضارة الإنسانية: ان العقلاء النبلاء كثيرا ما يتماثل أو يتشابه تفكيرهم وكلامهم في قضايا إنسانية مشتركة وإن اختلفت أعراقهم وأديانهم وبيئاتهم ولغاتهم.. لقد استمعنا منذ ثوان إلى الأمير الانجليزي المسيحي تشارلز، فلنصغ الآن إلى كلام مثيل قاله الأمير السعودي المسلم سلمان بن عبد العزيز: «هل الكوكب الأرضي يتسع لكل الأديان والأمم ويضيق ـ فقط بدين الاسلام والمسلمين؟» إننا نعجب من التحامل غير المبرر على الإسلام كدين لأننا نعلم ان الاسلام دين سماحة وتعارف وتفاهم واحترام للتعدديات المختلفة ويحرص على إزالة الأسلاك الشائكة بين الثقافات والحضارات. وقد جاء بهذه القيم في وقت كان فيه العالم غارقا في الظلام في عهود ما سمي بالقرون الوسطى المظلمة في أوروبا. وهي القرون التي كانت تقابلها نهضة التنوير العقلي والعلمي والمعرفي عند العرب والمسلمين، كما شهد بذلك علماء ومفكرون غربيون لا نستطيع احصاءهم الآن. وإننا لنسأل بتعجب أيضاً: ما سبب هذا التحامل على الإسلام؟. هل هو الجهل بحقيقة الإسلام أو هو رواسب تاريخية معينة لم يستطع اصحابها التخلص منها فانعكست على أقوالهم ومواقفهم في أيامنا هذه؟.

والمناسبة السببية والزمنية للبداية بالعلاقة التي ينبغي ان تكون بين الحضارتين: الإسلامية والأوروبية أو الغربية هي الحراك السياسي والدبلوماسي الذي سيباشره الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ بعد قليل ـ مبتدئا جولته ببريطانيا، وهي جولة تشمل ـ أوروبيا ـ ألمانيا وسويسرا وايطاليا.. ان هذا الحراك السعودي الذي يقوده هذا الرجل الشامخ ليس من التقويم الموضوعي، ولا النظرة السديدة: النظر إليه على أنه مجرد (علاقات ثنائية) أو قصيرة الأجل.. نعم.. ستحظى العلاقات الثنائية بما يجب ان تحظى به من جد ومسؤولية وطموح، فليس من الواقعية العقلانية: القفز على (المصالح الآنية) أو قريبة الأجل. بيد أن هذه (الحركة السعودية المدروسة) ذات أبعاد حضارية طويلة الأجل، ممتدة إلى المستقبل: ما بقي على الكوكب: إسلام ومسلمون، وغرب وغربيون.. وخير الحراك ما امتدت فيه البصيرة إلى المستقبل: امتداداً مقترناً بتركيز البصر على الحاضر والراهن بمقتضى المصالح الحيوية التي لا تحتمل التأجيل. لماذا قلنا: انه يتعين النظر إلى هذا الحراك السعودي من خلال (رؤية حضارية): أوسع وأوفى وأدوم:

أولاً: لأن من خصائص الملك عبد الله بن عبد العزيز انه (رجل كبير الهمة): يحب معالي الأمور وأكبرها وأدومها وأوسعها مدى.. ولنضرب مثلاً على ذلك لصيقا بالرؤية السياسية الحضارية (الثاقبة) التي نتحدث عنها.. قبل سنوات سبع. وفي القمة التي وصفت بـ (قمة الالفية الثالثة)، واحتشد لها قادة العالم في نيويورك: القى الملك عبد الله يومئذ كلمة السعودية في ذلك الجمع البشري، وهي كلمة تحمل (رؤية تاريخية سياسية حضارية للعصر والعالم والمستقبل).. نعم. فقد كان عماد الكلمة. أ ـ رؤية عالمية لحقوق الإنسان وخلاصة ذلك: ان هذه الحقوق منحة من الخالق العظيم تولد مع الإنسان، وليست منة من أحد على أحد وان ما يمنحه الله للإنسان لا يجوز أن يكون مجال متاجرة ولا مزايدة ولا ابتزاز. ب ـ ورؤية عالمية سديدة لـ (العولمة) فقد دعم خطاب الملك العولمة بحسبانها اثراء وتعزيزاً للتواصل الكريم بين الحضارات، والتقارب بين الشعوب، ولكنه خطاب يطالب ـ في الوقت نفسه ـ بتضامن عالمي جاد يحمي العولمة من الانفلات والانزلاق نحو فوضى عالمية تصبح العولمة فيها أداة لهيمنة القويّ على الضعيف، وتكريسا للظلم في العلاقات الدولية ووسيلة أو مظلة لانتهاك سيادة الدول والتدخل في شؤونها الوطنية الخاصة. ج ـ ورؤية متسامحة ومخلصة ومتوازنة للسلام والأمن الدوليين، وللعلاقة بين الأمم في الحقول الثقافية والفكرية والمعرفية والحضارية ـ وهذه كلها رؤى استمدها الملك عبد الله من مبادئ الاسلام وقيمه الانسانية التي تنزلت على ذات الوطن الذي يقوده ويدير شؤونه، فهو رجل اذ يعيش عصره وعالمه، يحمل ـ في الوقت نفسه ـ رسالة الاسلام (بمقتضى الموقع والمنهج والدستور والارث التاريخي والحضاري).. وهما مسؤوليتان متكاملتان متناغمتان تناغما يثوي في الجواب عن السؤال التالي: ما هي الرؤية الحضارية التي يتطلبها عالمنا وعصرنا؟.. هي وحدة الجنس البشري ومساواته في الاصل والنشأة.. وهي تنوع القوميات والألوان واللغات في اطار هذه الوحدة.. وهي تعدد المناهج والشرائع والنظم ـ بالخيار الحر ـ لئلا يكره احد احدا على نظام لا يريده.. وهي الكرامة والعدالة العالميتان للناس اجمعين.. وهي استثمار تقنيات الاتصالات في مزيد من التعارف والتفاهم الانساني.. وهي سلامة بيئة الكوكب وصلاحها للحياة الصحية النظيفة.. وهي السلام العام الذي يأنس به ويهنأ بنو آدم كافة، بل الكائنات الاخرى من نبات ودابة وطير.. وهي التعاون البشري الوثيق على ذلك كله.. هذه هي مطالب البشرية واولوياتها الاجتماعية والسياسية والحضارية: اليوم وغدا.. وهذه الاولويات هي نفسها انظمتها آيات قرآنية مبثوثة في اكثر من سورة في المصحف.. ومن هنا يتبين ـ بعلم ويقين ـ: ان المسؤولية عن عالمنا والمسؤولية عن الاسلام هما مسؤوليتان متكاملتان في الحراك السعودي الحضاري الذي يقوده الملك عبد الله بن عبد العزيز، وذلك ان (عالمنا) هذا هو (واقع حقيقي) لا خيالي.. هذه واحدة.. والاخرى: ان الاسلام للواقع، بمعنى انه ليس مجرد فلسفة ذهنية او نظرية. وانما هو منهج نزل للتطبيق.. ولما كانت السعودية قد الزمت نفسها منهجيا ودستوريا بالاسلام، فانها تلتزم بمبادئه في علاقاتها السياسية والحضارية مع الآخرين.. تلتزم بذلك بموجب المادة (8) من دستورها: «يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على اساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الاسلامية.. والشريعة وعاء ضامن لتلك المطالب البشرية كلها» وتلتزم بذلك بموجب المادة (25) من الدستور «تحرص الدولة.. على تقوية علاقاتها بالدول الصديقة».. وهذا الحرص على العلاقات الحميمة مع الاسرة البشرية: أَمَرَ به الاسلام، وحفز عليه من حيث انه حرص يحقق مقصدا من مقاصد الرب سبحانه في خلق المجتمع البشري.. يقول ابن خلدون: «ان الاجتماع الانساني ضروري للنوع الانساني، والا لم يكمل وجودهم وما اراده الله من إعمار العالم به، واستخلافه اياهم».

ثانيا: المقتضى الثاني للرؤية الحضارية لجولة الملك السعودي في الغرب هو ان الاسلام اصبح في عمق السياسة الدولية بوجه عام والسياسة الغربية بوجه خاص، وذلك لاسباب عديدة لا يتسع المجال لسردها.. وحين يحصل هذا الاهتمام الغربي الهائل بالاسلام، يتعين على عقلاء المسلمين ومعتدليهم: ان يتقدموا الصفوف لكي يعرفهم الغرب مباشرة ويقف على رؤيتهم الفكرية والحضارية ـ المنبثقة من الاسلام ـ لطبيعة العلاقة مع الغربيين: مؤسسات وشعوبا. فالمملكة التي تحمل رسالة الاسلام يصيبها اذى كبير جدا حين يشوه الاسلام على يد الجهلة من بنيه، او على يد غربيين يسيئون فهم الاسلام ـ حسب تعبير الامير تشارلز ـ.. وانصافا للاسلام.. وغيرة على السمعة الطيبة للدولة، ينبغي رفع شعار «هاؤم اقرؤا كتابيه» او توضيح (الرؤية الحضارية).

ثالثا: من (الجهالة الحضارية): حصر العلاقة بين الحضارتين ـ الغربية والاسلامية ـ في الصراعات المسلحة التي نشبت بين الطرفين في حقب تاريخية معروفة. فحقائق التاريخ تشهد بأن حقب التعاون والتبادل المعرفي والتجاري ـ بين الطرفين ـ كانت اطول مدى، واخصب تربة، وأطيب ثمرا.. فمن الوقائع الحضارية الموثقة بألف دليل: ان العلماء العرب والمسلمين أحيوا التراث المعرفي اليوناني والروماني ونقحوه وطوروه وأضافوا اليه ابداعات جديدة. ولقد استفادت أوربا من النهضة العلمية الاسلامية هذه.. فمن مشاهير اكسفورد ـ مثلا ـ: العالم والفيلسوف البريطاني الكبير: روجر بيكون (1220 ـ 1292م). والثابت: أن بيكون قد اقتبس علم (البصريات) من علماء المسلمين الذين برعوا في هذا الحقل.. وفي ميدان العلاقات الديبلوماسية كانت ثمة روابط جيدة قائمة ـ في القرن 13م ـ بين الامبراطور فريدريك الثاني في ايطاليا وبين سلطان مصر الأيوبي: الكامل محمد وابنه الصالح نجم الدين أيوب. اما العلاقات التجارية بين الحضارتين فقد كانت جد نشطة. مثال ذلك: الحركة التجارية الواسعة بين جنوة وبيزا وبين شواطئ شمال افريقيا المسلمة.. وهذا وميض ـ فحسب ـ من ضياء ساطع نوّر العلاقات السلمية بين الحضارتين: الاسلامية والأوربية.. فلماذا وبأي عقل وضمير: تحصر العلاقة بين الحضارتين في مضيق ما كان من صراع دام هو أقصر الحقب في التاريخ الطويل بين هذين العالمين الكبيرين؟.. إن رحلة الملك عبد الله (الحضارية) إلى أوربا: إنما هي إحياء واستئناف وتطوير وتنشيط للعلاقات السوية الراشدة المحترمة النافعة بين الغرب والعالم الاسلامي، وهو لذلك أهل وبه جدير: خصائص شخصية.. وموقعا وطنيا.. ومسؤولية حضارية عالمية.

رابعا: الموجب الرابع لفهم الحراك السعودي نحو أوربا من خلال (رؤية حضارية) هي أبعد مدى من مجرد العلاقات قصيرة الأجل.. هذا الموجب هو: ان هناك مجانين ـ لدى الطرفين ـ يوقدون نيران الصراع والصدام ويستعجلون ذلك ايما استعجال.. وفرص هؤلاء المجانين ستكثر: ما لم تتكاثر (الموانع) التي تحرمهم من تنفيذ أمانيهم المهبولة المخبولة المدمرة.. ومما لا ريب فيه: ان أعظم الموانع هو تأصيل العلاقة بين الحضارتين ـ الإسلامية والغربية ـ في قواعد واضحة متينة عاقلة عادلة قابلة للتطبيق: يربح منها الطرفان: معنويا وماديا.

ونحسب أن أرشد قواعد تفكير للتفاهم بين الحضارتين هي:

1 ـ انبثاق التفكير من موضوعية عقلانية واقعية، بمعنى ترسيخ الاقتناع ـ الى درجة الاعتقاد ـ بأنه من المستحيل (تبادل الاجتثاث). ينبني على ذلك: التحرر من طرائق التفكير المؤدية الى الصراع والصدام بحسبان أن الاسلام عدو للغرب، وأن العالم الاسلامي عدو أبدي للعالم المسيحي. كما ينبني عليه: سلوك حضاري مركب. الكف عن التظالم من جهة. والكف عن محاولات فرض نماذج حضارية من طرف على طرف، من جهة أخرى. فالفرض أو الاكراه يتضمن ـ بالضرورة ـ نزوعا مشحونا بمفاهيم النفي والاستعلاء واحتقار النماذج الحضارية الأخرى.

2 ـ مَنْهَجة التفكير وتربيته على أن يتقبل ـ برضى عميق ـ (المساحات الواسعة من الاختلاف) بين الحضارتين في مفاهيم عديدة: مفهوم الحياة.. ومفهوم الانسان.. ومفهوم الدين.. ومفهوم الحرية الخ. فالناس لا يزالون مختلفين، ولحكمة عليا أرادهم الله كذلك.

3 ـ احياء الفكرة الحكيمة التي نادى بها المؤرخ البريطاني الثقة: حـ. أ . فيشر وهي تسخير العلم لأجل تعزيز العلاقات بين الأمم. فقد قال: «وأخذ تسخير العلم لقوى الطبيعة يجعل من الكرة الأرضية قطرا واحدا ويوثق أكثر فأكثر عرى الأمم وصلاتها السياسية والثقافية واعتمادها بعضها على بعض. وبتقارب تخوم الكرة الأرضية تغيرت معالم العلاقات الدولية وتعززت أو ينبغي أن تكون كذلك».