الصحافة والثقافة .. قراءة خارج المنهج المقرر

TT

أشكر القراء الأعزاء لاهتمامهم بالتعليق على مقالة (ما يطلبه القراء)، ويتضاعف امتناني لمن دفعني خلافهم مع مضمونها لبحث ما إذا كان عدم إيصال المعنى المستهدف، يعود لأسباب لغوية، أو تحريرية صحفية؟ أم للاصطدام بأخطاء شائعة سائدة تعتبر «مسلمات» رغم تناقضها مع حقائق العلم والجغرافيا والتاريخ والبيولوجيا؟

وككاتب من المدرسة الصحفية الكلاسيكية، أقدس احترام القارئ/المستهلك لسلعة أشارك في إنتاجها. فالصحافة، كصناعة، تكتمل حريتها فقط في نظام حرية السوق الاقتصادية بتفوق سلعتها على الأخرى المنافسة، وإلا تفلس الصحيفة، أو تفقد حريتها بالاعتماد على ممول.

ربما دفع تركيز جملة بداية المقال «بريد قراء الصحف العربية...» البعض ليقصرها على قراء «الشرق الأوسط».

ورغم اعتزازي بالالتباس («الشرق الأوسط» هي جسر تواصلي الوحيد مع قراء العربية باستثناء المتابعين منهم للصحافة الإنجليزية)، فالعبارة تشمل بقية «الصحف العربية».

وكمعلق يقدم للقراء والمستمعين البريطانيين تحليلا لما يدور في، وعن، بلدان الشرق الأوسط أراجع يوميا مواقع الصحف المصرية بالعربية والإنجليزية، وصحف البلدان العربية، وإسرائيل، وإيران، وتركيا، وباكستان.

وفي صحف بلدان بلا صناعة استطلاع الرأي يصبح بريد القراء مؤشرا بديلا، اقل دقة، لقياس الرأي العام، مع ملاحظة الاختلاف الهائل في الثقافة الاجتماعية والممارسات السياسة بين القراء من بلد إلى آخر. خصوصية بريد القراء في الصحف القومية المصرية الكبرى كالأهرام، على حداثة أسلوبه، لا يزال كبردية «الفلاح الفصيح» الفرعونية، فتستطلع منه مدى برودة، أو دفئ، علاقة الفرد بدولة مركزية استمرت بيروقراطيتها لسبعة آلاف عام.

وهذا يختلف جوهرا وأسلوبا عن بريد قراء بلدان الخليج، وفي داخل القسم نفسه يتباين بريد «المواطن» عن بريد الأجنبي «الوافد». أما تعليقات قراء الانترنت فغالباً ما تأخذ طابع الجدل السياسي المتحمس.

وهناك صحف عربية، تصدر من أوروبا، توظف بريد القراء، انتقائيا، لترويج رسالة آيديولوجية أو شن حملات لتشويه السمعة، أو لتصفية حسابات. فصحف تخلو من إعلان واحد مدفوع الأجر ولا يكفي دخل توزيع نسخها لدفع إيجار مكتبها، ناهيك عن تكاليف الطبع والشحن والتوزيع، ومرتبات المحررين، تتحول تقاريرها الإخبارية إلى منشور ايدولوجيا أو اسلاموجي أو منبر لترويج رسالة القاعدة وأخواتها، وتلقب اكبر إرهابي عرفه التاريخ الحديث «بالشيخ» أسامة بن لادن، كما تجند بريد القراء لترسانة أسلحتها للدمار الشامل للعقول التنويرية، بتوجيهها نحو المنابر الديموقراطية.

فبريد القراء مثلا ضمن حملتهم المستمرة ضد مفكرين كأستاذ العلوم السياسية الامريكي، المصري المولد، الدكتور مأمون فندي. وتكتشف من لغة عشرات الرسائل أنها بقلم قارئ أو اثنين بعدة أسماء مستعارة.

او كحملتهم الأخرى ضد فتوى فقيه سعودي تنصح شباب بلاده بالالتفات لتعليمهم والتقوى بدلا من الاشتراك في جرائم قتل المدنيين والنساء والأطفال في العراق ٍبدعوى محاربة الصليبيين. وفور هجوم الافتتاحيات على الشيخ الجليل، انهمر فيضان رسائل القراء في حملة وحشية على عالم دين وقور أراد حماية شباب بلاده من الإرهاب والجريمة والموت انتحارا. سؤال مشروع آخر طرحه قارئ لمقال الأسبوع الماضي حول التعليم: «وما ذنب جيل ما بعد موت وزارة المعارف، شب على إدارة العسكر للتربية والتعليم؟».

والإجابة كانت في الأصل الذي أرسلته للديسك، إذ يبدو أن الفقرة المعنية سقطت سهوا في المطبعة، أو استؤصلت لضيق المساحة أو ضيق ذات اليد (ولا اعتقد لضيق الصدر). إذ تضمنت الدور التكميلي complimentary أو الموازي parallel لدور المدرسة بتعاون أولياء الأمور والمعلمين parents-teachers Association لبحث وتقرير المنهج الإضافي extra-curriculum reading كبرامج القراءة في العطلات الصيفية، ونهاية الأسبوع، ونصف السنة، باستعارة كتب غير مقررة في المنهج الدراسي، من الكلاسيكيات والأدب العالمي والشعر من المكتبة العامة public library في الحي (وليس محل الكتب حسب التسمية الشائعة لكلمة مكتبة).

والفقرة التي «سقطت سهوا» اشتملت مثلا عمليا وقائمة قراءة، على سبيل المثال، لا الحصر، لتعكس مفهوم تنسيق الأسرة ومعلم الفصل، لعمومية universality وتنوع تنمية معارف الصغار وتثقيفهم بقراءة كتب ليس لأنها «غربية» أو «شرقية»، وإنما لعموميتها إنسانيا ونص الفقرة: (كنا كتلاميذ نساق لمكتبة الحي أسبوعيا لاستبدال الكتب التي نستعيرها، باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية. قائمة محددة بدقة للأعين الصغيرة مثل: تاريخ الحضارة المصرية الفرعونية، والكلاسيكيات الإغريقية واللاتينية؛ وأعمال شكسبير، وميدليتون، وروسو، وموليير، وبلزاك، وزولا، وديكينز؛ ومؤلفات المنفلوطي، والحكيم، والدكتور هيكل، وطه حسين؛ ودواوين أمير الشعراء احمد شوقي، وسامي البارودي؛ وكنا نحفظ قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها» عن ظهر قلب).

ويفضي هذا إلى التباس آخر، خاصة باعتقاد البعض بتفضيل ثقافة على أخرى؛ وربما سببه غياب تعريفات محددة لمفهوم الثقافة، كرسالة اقتبس منها: «.... فحضرتك تمثل التيار التغريبي المنبهر بالغرب والحاقد على مقومات ثقافتنا...».

واعترف بعجزي عن تبين المقصود بـ«التغريب».. وعن ماذا بالضبط؟ أو مقومات «ثقافتنا»؟

فتعريف «التغريب» يزداد تعقيدا إذا كان تعليم الكاتب مثلا إنجليزيا، أو فرنسيا منذ الصغر (رغم أن التعليم الإنجليزي لا يزال، والمصري قبل 1958، يشملان الأدب بنوعيه الكلاسيكي، والحديث بأنواعه الإنجليزي والفرنسي والعربي واللاتيني، ودراسة حقبات تاريخ العالم كله).

وتبلغ الصعوبة حد الاستحالة لتعريف مقومات «ثقافتنا»؛ حيث ال «نا» هنا تعني الجماعة.

فعمليا وواقعيا لا توجد ثقافة موحدة منسجمة يمكن تسميتها «الثقافة العربية» ـ والتعبير خطأ شائع منتشر إعلاميا. ومصدر الالتباس، غالبا، الترديد الببغائي (دون التفكير في المضمون) لشعار «العروبة من المحيط للخليج» واعتبره الكثير من المسلمات رغم غياب أي تعريف تطبيقي واقعي، أو كيان قانوني سياسي أو اجتماعي له. فمفهوم «التربية» بالتلقين بدلا من مفهوم البحث الذاتي في «المعارف» أوقع جيلين كاملين ضحية إعلام موجه بالشعار القومجي «من المحيط للخليج». وبالتالي اعتبر كثيرون ثقافتهم العامة الشعبية National culture في دولتهم القومية (الوطنية) Nation state «الثقافة العربية».

فتجد مغربيا أو جزائريا يعتبر فولكلور مجتمعه «الثقافة العربية» (رغم أن أغلبية مواطني بلاده امازيج وليسوا عربا). ومن منظور الخطأ الشائع نفسه تجد عراقيا لا يفهم نكتة يلقيها جزائري لكنه يعتبر ثقافته العراقية (التي يشاركها غير العرب كالآشوريين والأكراد والتركمان) هي «الثقافة العربية»؛ فأي الثقافتين، العراقية، أم المغربية هي «الثقافة العربية» التي يجمعها الضمير «نا» في الرسالة؟ ولعل اجتهادي، خارج المنهج، خطوة نحو توضيح بعض ما فاتني إيضاحه للقراء الأعزاء، ودونهم لا تكون للصحافة قائمة، بسبب التركيز (بأسلوب إنجليزي؟) في الجمل أو سقوط الفقرات سهوا أو لضيق المساحة.