في مكافحة التصورات الجاهزة

TT

إذا كانت مكافحة الإرهاب والمخدّرات وغيرهما ليست بالأمر الهيّن، فما هو حال مكافحة التصوّرات الجاهزة، والأفكار المسبقة المتغلغلة في المنظومة القيميّة والثقافية للمجتمعات.

المؤكد أنّ مكافحة التصوّرات الجاهزة أكثر صعوبة ألف مرة من مكافحة أي ظاهرة مهما بدت خطيرة ومستفحلة. وقد أصاب دقة في التعبير والتشخيص وزير الخارجية الإسبانية ميغيل أنخيل موراتينوس، عندما آثر الحديث في المؤتمر الدولي حول: «مناهضة التعصّب والتمييز ضد المسلمين»، عن ضرورة مكافحة التصوّرات الجاهزة التي تدين الإسلام والمسلمين، والتي أنتجت كراهية للإسلام في أوروبا، من الصعب التخفيف من حدّتها أو تجاهلها وتفنيدها.

لذلك فإن كلمة موراتينوس بدت مثلجة للصدر من حيث اعترافاتها وإقراراتها، خصوصا أن الخطاب السياسي الأوروبي حول موجة معاداة الإسلام والمسلمين، يجانب الصراحة ويركّز عن النتائج بدل الدوافع في معالجة الأحداث ذات العلاقة من قريب أو من بعيد بالمسلمين. ولكن، هل يكفي الاعتراف بانتشار العنصرية، وعدم التسامح، والتمييز، والتعصب ضد المسلمين، لنشر ثقافة التسامح، ومبادئ التعايش، والحوار بين مختلف الديانات والثقافات، وتجسيد القيم الأخلاقية للأديان التوحيدية؟ بل كيف يتسنّى تجسيد توصيات المؤتمر الدولي لمعادة الإسلام، وبعض ردود الأفعال حوله كانت رافضة لمجرد انعقاده، من ذلك أن صحيفة إسبانية ذات توجّهات يمينية، رأت أن شعار المؤتمر ذاته يوجّه تهمة للمجتمع الإسباني بعدم التسامح، مقترحة شن حملة أمنية ضد المساجد التي وصفتها بأنها مساجد بلا أوراق، كحال المهاجرين غير الشرعيين.

وبالنظر إلى هذه المواقف، تصبح معاداة الإسلام حقيقة لا يمكن تجاهلها، خاصة على مستوى الإعلام الغربي، ونصيب لا يستهان به من الممارسات الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية.

واللافت للانتباه وللاستشعار بالخطر هو أننا اليوم أمام تعصّب من نوع جديد، أكثر حدة وتوسعا وتشددا. فالتعصّب القديم كان يمسّ الذات المسلمة، ويتعاطى معها كذات متخلفة وغير مساهمة في تقدم الإنسانية والحداثة وأنها تنتمي في أغلبها إلى بلدان كانت مستعمرة أوروبيا... ومع ذلك، تجاوز المسلمون هذه النظرة، وأقاموا في بلدان أوروبية، وحاولوا الاندماج من جهتهم قدر المستطاع. ومنذ تاريخ أحداث 11 سبتمبر 2001، وجد المسلمون أنفسهم أمام ملامح جديدة للتعصب المعيش، وامتدت يداه إلى الرموز الإسلامية ومقدساته، أي أن التعصّب أصبح لا يكتفي بالذات المسلمة، بل انتقل إلى الإسلام كمقدسات ورموز وثقافة وقيم وتصور للحياة وللإنسان، بمعنى أن النموذج الإسلامي هو المستهدف كإطار ومرجعية فكرية ودينية وثقافية.

ويكفي في هذا السياق التذكير بالرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول التي أعلن فنان سويدي أخيرا نيّة تحويلها إلى فيلم، مع ما يعني ذلك، بضرب ردود أفعال العالم الإسلامي عرض الحائط.

طبعا الأوروبيون يقاربون هذه المسألة من منطلق حرية التعبير وأنهم تجاوزوا سلطة الدين على الفن والحرية الإبداعية، ولكن أيّ نعيم قد يجنيه العالم من هذه الحرية إذا ما كانت سببا للاستفزاز والغضب الحاد، ولتغذية الإحساس بالكراهية، وبالتالي إشعال فتيل العنف، وتهديد سلام العالم المهدد أصلا؟

إن ملف مؤشرات ومظاهر معاداة الإسلام والسعي إلى استفزاز المسلمين ثقيل جدا، وازداد وزنه خلال السنوات الست الأخيرة بنحو يدل على اللامبالاة، وعلى عدم الوعي بخطورة الاستمرار في اعتناق تصورات مسبقة تغذيها وسائل الإعلام وزلات لسان الساسة، بل وحتى رجال الدين وعلى رأسهم تصريحات البابا بينيديكت السادس قبل أشهر طويلة.

إذن، إنّ ظاهرة معاداة الإسلام أضحت اليوم متفشية ومتغلغلة وصعبة المكافحة من خلال مقاربات ثقافية أو عقد مؤتمرات على صعيد عالمي تناهضها وتدعو إلى الحوار والتسامح، ونبذ التمييز.

فالظاهرة تحتاج إلى عملية جراحية تستأصل العلل، وتتيح فرصة حقيقية للتعافي. لذلك لا نعتقد في تبنّي حلول المؤتمرات للتوعية أو إعلان صيغ جديدة للإسلام في الدول الأوروبية، كما فعل ذلك الرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي باقتراح الإسلام الفرنسي.

المطلوب إرادة سياسية أوروبية، تترجمها قرارات تمحو التمييز ضد المسلمين المهاجرين، وتتعاطى معهم كمواطنين كاملين يعيشون في بلدان من المفروض أنها حارسة حقوق الإنسان.

ذلك فإن تجاهل مشاكل المهاجرين، ومحاولة تضييق الخناق عليهم، قد جعل عناصر كثيرة من الجيل الثالث للمهاجرين بمثابة قنابل موقوتة داخل المجتمعات الأوروبية. فلا بد من إرادة أوروبية واعية تسعى إلى استيعاب ملايين المسلمين، الذين يشكلون حاضرا ومستقبلا رصيدا بشريا وثقافيا له مواصفات السلاح ذي حدين.

هكذا يتم امتصاص غضب المسلمين واحتقانه، من دون أن ننسى دور الفنانين الواعين في تجفيف منابع أي استفزاز لمعتقدات الغير، وأن يميزوا بين حرية تشيع الفرح، وحرية تشعل النار.

لذلك فإن مكافحة التصورات الجاهزة، وإن كانت لا تحتاج إلى عمليات غزو بالمعنى التقليدي، فإنها في أمسّ الحاجة إلى التزام سياسيّ وفني واجتماعي وإعلامي أوروبي، يجعلنا نطوي صفحة سوداء تريد أن تتحول إلى كتاب أسود.

[email protected]