هل يمكن «تعريب» مقتدى الصدر؟!

TT

احدى مشاكل النظام العربي ضعف قدرته على المبادرة السياسية. باستثناء المبادرة السعودية لطرح مشروع للسلام في المنطقة، فالسياسة الخارجية العربية هي مجرد ردود فعل لمبادرات وسياسات ومشاريع غير عربية.

لا شك أن النظام العربي صادق في حرصه على عروبة العراق. هناك اجماع عربي رسمي وشعبي على رفض تقسيم العراق تحت شعار الفيدرالية. هناك قلق عربي رسمي من ازدواجية السياسة الإيرانية التي لا تتفق مع الأخلاقية المفروض توفرها في نظام ديني.

إيران علنا مع وحدة العراق. سرا، قطعت شوطا بعيدا في محاولة محو عروبة العراق، من خلال الهيمنة على الجنوب الشيعي، وتثبيت النظام الطائفي المؤيد لها، والمتحالف مع أكراد طالباني وبرزاني، والمساير للاحتلال الأميركي.

هذه الازدواجية المكشوفة لم تدفع النظام العربي الى المبادرة مثلا الى الانسحاب من «مؤتمر الجيران» الذي بات منبرا للتكاذب الإعلامي المتبادل حول التدخل وعدم التدخل في العراق.

السؤال الآن: ماذا فعل العرب لحماية عروبة العراق؟ بعد الاحتلال، كان هناك شبح مبادرة عربية لاحتواء محنة العراق. احتضنت القاهرة، بمبادرة الجامعة العربية، مؤتمرا عراقيا تحت شعار «الوفاق الوطني العراقي» شاركت فيه أجنحة الطيف السياسي، بما فيها أحزاب وحكومة الشيعة. خرج المؤتمر بقرارات تدعو الى وحدة العراق، وادانة الإرهاب (القاعدة)، وانسحاب (أميركي) وفق جدول زمني، وتجنب التحريض الطائفي والمذهبي.

أغرق التكاذب العراقي الجهد العربي. عاد المؤتمرون الى العراق ليحولوه بمشاركة الاحتلال الى أتون للصراعات الدموية المذهبية. تحول المشهد العراقي المفجع الى مجرد فرجة مبكية لعرب التلفزيون.

وصلا لما انقطع بعد مؤتمر القاهرة، فقد اكتفت الجامعة والنظام العربي باستقبال واستضافة زعماء سنة عراقيين صادقين في حرصهم على عروبة العراق ووحدته. لكن عواطف هؤلاء وغيرتهم لا تكفي لحماية العراق. من هنا، أسأل لماذا لا تمد الجامعة والعواصم العربية المعنية جسور الوصال والاتصال، من رسمية وغير رسمية، سرا وعلنا، مع زعماء عراقيين آخرين من خارج الطيف السني، لا سيما أولئك من الشيعة الذين يبدون حرصا على عروبة العراق، ومقاومة تقسيمه؟

ماذا عن الوصل والاتصال مع مقتدى الصدر مثلا؟

قد يشكل مجرد طرح اسم مقتدى مفاجأة أو صدمة في هذه العاصمة أو تلك، لأننا لم نتعود أن نجرب الممكن والمستحيل، لم نتعود كيف نحاور من يختلف معنا في الرأي والموقف، وإن التقى معنا في الغاية والهدف.

مقتدى رجل مزاجي. متقلب. عاطفي. متسرع. خطيب مسرحي قادر على إثارة جمهوره الشيعي العريض من الفقراء والأميين الغاضبين. لكن مقتدى رافض للاحتلال. وهو الوحيد من زعماء الشيعة الذي لم يدخل في عقد صفقة الغزو مع أميركا. لذلك تعاون هؤلاء مع الاحتلال لتحييده وإقصائه عن العملية السياسية. عندما أخفقوا بسبب شعبيته العريضة، فقد اتفقوا معه على خوض الانتخابات (2005) بقائمة شيعية طائفية (الائتلاف العراقي الموحد) ففاز الصدر بالنصيب الأكبر من مقاعدها النيابية (32 مقعداً).

في رؤية الأحزاب الشيعية الطائفية الحاكمة والموالية لإيران، فمقتدى الصدر رجل «صاحب مشاكل» ومعطل للمشروع الشيعي في حكم عراق فيدرالي متحالف مع إيران لمحو هويته العربية. لعل اللقاء الوحيد للصدر مع هذه الأحزاب هو في مشروعه لإقامة دولة دينية خمينية، وفق أحكام المذهب الشيعي.

الخلاف الكبير مع هذه الأحزاب هو في ايمان الصدر بعروبة العراق ووحدته. شعاراته التي يطلقها مع زعماء جناحه تنمُّ كلها عن الخوف من إيران وأعوانها على عروبة العراق: شعب واحد. بلد واحد. لا للتفرقة. لا للتقسيم. لا للفيدرالية. نعم للوحدة الوطنية.

وهكذا، وجد الرجل نفسه في غمرة اقتتال شيعي دموي وعنيف. أخفق في السيطرة على المدن الدينية (النجف وكربلاء) لكنه موجود فيهما بقوة. كفته تميل إلى الرجحان في سائر الجنوب، على الرغم من دعم إيران بالمال والرجال والسلاح لخصومه (حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى للثورة الاسلامية) الذين لا يجارونه في شعبيته.

أحسب أن الصدر على المدى البعيد سيخسر دوره، وربما تجرى تصفيته سياسياً وجسديا. فهو يقاتل على أكثر من جبهة. دخل في أكثر من مواجهة. وتحول الصدام مع أميركا حاليا إلى معارك وحشية يشارك فيها الطيران للإغارة على معقله في مدينة الصدر.

ضعفُ الصدر يكمن في ضعف كفاءته التنظيمية. شكل جيشاً عريضا (جيش المهدي). هذا الجيش ما لبث أن تحول إلى ميليشيات استئصالية «لتطهير» بغداد من السنة. الصدام مع السنة جرى بعد لجوء تنظيم «القاعدة» إلى نصف الأضرحة الشيعية، إمعاناً في التحريض على الاقتتال الطائفي. لا بد من الاعتراف بأن الزعماء السنة لم يستطيعوا كبح جماح «القاعدة» في تدميرها الوحشي والعبثي للتعايش المذهبي بين السنة والشيعة.

إشكالية الاقتتال الشيعي تكمن في ازدحام المسرح السياسي بالعمائم. مقتدى أحد رموز هذه الإشكالية. فهو وريث مرجعية دينية وبيت سياسي نكبه صدام بالقتل والاغتيال. قتل صدام المرجع باقر الصدر عم مقتدى (مؤسس حزب الدعوة) وعمته بنت الهدى (1980). ثم ما لبث أن قتل أباه صادق الصدر (1999) وشقيقين له، واحتجز مقتدى في بيته مع أمه وشقيق آخر.

المرجعية الشيعية العراقية أسر وراثية متناحرة: آباء وأشقاء قتلوا. أبناء ذوو طموح سياسي وديني وارتباطات خارجية. أنصار الصدر متهمون بقتل عبد المجيد الخوئي نجل المجتهد الأكبر أبي القاسم الخوئي، فور عودته من لندن مع دبابات الاحتلال. وهم أيضاً متهمون بقتل باقر الحكيم الطباطبائي (نجل المرجع محسن الحكيم ومؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) فور عودته من إيران. في خضم الصراعات، تولى المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله، في مرحلة من المراحل، مرجعية حزب الدعوة الحاكم اليوم في العراق والموالي لإيران.

علاقة مقتدى الصدر بإيران تظل لغزا. فهو ورجاله ينتقدون علنا تدخلها في العراق، وصولا إلى اتهامها بالعمل على محو هوية شيعة الجنوب العربية. إيران تغض النظر لمعرفتها بشعبيته العريضة. وهي على الأرجح تشارك في تمويله وتدريب جيشه وتسليحه، كما تفعل مع سائر التنظيمات الشيعية والسنية التي تقاتله.

إذا كان النظام الإيراني يلعب لعبة التدخل إلى آخر مداها، لا فرق عنده بين مذهب وآخر، والهدف استنزاف الأميركيين والحلول محلهم في العراق، فلماذا لا يدخل النظام العربي اللعبة إلى آخر مداها، فيمد جسور الوصل والاتصال مع الأجنحة المتناحرة، بدءاً بجناح مقتدى الصدر؟ النظام السوري يلعب لعبة التدخل. يستقطب أجنحة في حزب البعث العراقي. مقتدى يزور سورية سرا، وربما أيضاً لبنان. وهو يعلن انه امتداد وذراع ضاربة لحزب الله وحماس.

إذا كان من ذريعة للنظام العربي وجامعته العربية للتدخل، فهي الهدف القومي المشروع والنبيل في حماية عروبة العراق، وإبقائه جدارا واقيا للخليج وللمشرق العربي، من محاولات الاختراق الإيرانية وغير الإيرانية.