راحة الروح

TT

أكثر مشهد أثار الإعجاب، والعجب، في زيارة السيدة لورا بوش، سيدة أمريكا الأولى، للسعودية، هو ضحكتها المندهشة وهي ترتدي العباءة وتصلح الخمار أو «الطرحة» السعودية على رأسها.

كانت صورة تغني عن ألف خطبة ومقال، عفوية، أو هكذا بدت، ومباشرة، ومؤثرة.

القصة أن السيدة لورا قامت بزيارة لدول المنطقة، وفي مقدمها السعودية، لأغراض اجتماعية وخيرية، وركزت على مكافحة سرطان الثدي والتوعية به لدى نساء المنطقة. وتحت هذا العنوان الأخير كان اللقاء الذي جمعها بثلة من السيدات السعوديات في جدة، سيدات ومثقفات ركزن على محاربة سرطان الثدي ودعوة بنات جنسهن للانتباه له ومواجهته بشجاعة.

والحق أن هذه الشجاعة ليست مجرد دعوى أو «كلام في الهواء» بل هي واقع وممارسة، يكفي أن نسلط النظر على نموذج السيدة الشجاعة الدكتورة سامية العمودي، وهي طبيبة وكاتبة سعودية، ابتليت بهذا المرض، ولكنها واجهته بصراحة وجرأة منقطة النظير، وكتبت عدة مقالات عنه وحوله.

وفي تقرير كتبته الصحافية السعودية فايزة امبا في الوشنطن بوست، ذكر أن سامية العمودي تحدثت عن قصتها مع هذا المرض اللئيم في أكثر من 30 مقابلة تلفزيونية وعشرات المقالات، وهي ترى أن خير حل للازمة هو في مواجهتها لا الهرب منها، وبسبب هذه الشجاعة والنضج والثقة منحت الدكتورة سامية جائزة المرأة الشجاعة من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية، وهي تحدثت لوسائل الإعلام الأمريكية عن التوعية في السعودية عن المرض، وأشارت إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن وجود الورم في منطقة حساسة لدى المرأة وهي الثدي، يحول دون قدرتها على الإفصاح عنه في مجتمع متحفظ، بالإضافة طبعا إلى الخوف الرهيب والعميق من مرض السرطان أو غيره باعتباره نهاية الإنسان الحتمية، رغم أن هناك أشخاص نجو من المرض .

الغرض هنا ليس الحديث عن معضلة سرطان الثدي أو الاشتراك في الحملة التوعوية عنه، رغم أن هذا عمل جميل، وقد سبق أن كتبت خصيصا عن قصة السيدة سامية هذه، الغرض هنا، والذي توقفت عنده طويلا هو هذه «الروح» الجريئة والناضجة التي تملكها هذه السيدة السعودية، ومثيلاتها.

لماذا لا تسري هذه الروح على مشكلات أخرى تعصف بالمجتمعات العربية؟

لماذا نفضل دائما إخفاء القمامة تحت السجادة بدل أن نعريها ونكنسها ونتخلص منها علنا؟

المشكلة أن إخفاء القمامة تحت السجادة لا يلغي وجود القمامة ولكنه يخفي عن العين منظرها.

لدينا مشكلات كثيرة في العالم العربي نفضل التعامل معها بمنطق السجادة والقمامة، مشكلة الأقليات الدينية والإثنية مثلا، ومشكلة الطوائف ومشكلة الخلافات في أنظمة الحكم، ملكية كانت أم جمهورية، مشكلة العلاقة بين الدين والدولة، مشكلة الفساد المالي... مشكلات كثيرة من هذا النوع، كان سيكون جميلا، ومفيدا، وشافيا، أن نراها بوضوح ونقر بها، ونجمعها، ثم نكنسها من سجاد بيتنا، ونلقي بها إلى خارج البيت، بعد أن نتأكد من كنسها بشكل كامل.

الأيام الماضية عقد أقباط المهجر المصريون مؤتمرا في امريكا يتحدث عن مشكلاتهم، ويطالب بحقوقهم التي يرون أنها مسلوبة، البعض في مصر انفعل ونفى وجود مشكلة قبطية إسلامية في مصر، وان هذا من تحريض الخارج، والا فإن المصريين لم يعرفوا هذه التفرقة طيلة حياتهم.

طبعا هذا الكلام «إنشائي» ولا يحل المشكلة بل يفاقمها، لأنك إذا نفيت عن الآخر حقه في الشكوى والتظلم، فأنت مارست معه أقصى درجات الإلغاء والنفي له.

اعترف بوجود مظلمة لدى الطرف الآخر، من حيث المبدأ، ثم ناقش التفاصيل، وهنا لن يكون شيطان التفاصيل الشهير موجودا، الطرف الآخر يريد منك الاعتراف به، وتفهمه، ولن يلح كثيرا في تفاصيل القصة.

ومثل ذلك في مشكلة إقليم دارفور في السودان، فليس صحيحا ما تقدمه الراوية الرسمية الآتية من الخرطوم، بأن هناك مبالغة في تصوير المشكلة وان كل ما جرى هو مناوشات بين الأهالي وبعض المسلحين من اجل الماء والكلأ، وان الأجانب خلقوا مشكلة من العدم أو شبه العدم.

كان خير لحكام الخرطوم لو واجهوا المشكلة من البداية، وتحملوا وخز الشوك الذي سيصيب أيديهم جراء إدخالها في شجر دارفور الجارح.

والآن نسمع من كثير من أهل الحكم في العراق بأن لا مشكلة سنية شيعية، وان الجميع يحبون بعضهم لولا...

وهذا الكلام هو هروب من مواجهة الذات والنظر بوضوح إلى عين المشكلة، والعمل على حلها حقا، وقل مثل ذلك عن مشكلة الشيعة في الخليج والمسألة المطلبية لهم.

ومسألة المرأة والإلغاء الذي تتعرض له، وشطب هويتها، والتوتر من أي مقاربة تتعلق بوجودها الاجتماعي، ومسألة المرأة، بالذات، تكون أكثر تعرضا للجحود والنفي في مجتمع مثل المجتمع السعودي.

الحق انه لا يمكن الإبحار بسفينة السلم الاجتماعي والمضي بها إلا بعد الإقرار بالمشكلات، والاعتراف بالمظالم، ومواجهة الذات للذات، حتى ولو كان ذلك قاسيا ومزعجا وثقيلا، ولكن لا يوجد معبر آخر يعبر منه إلى الضفة الأخرى إلا هو، لحظة مواجهة قاسية، ولكن قصيرة، خير من حقبة تجاهل، مريحة ولكنها مدمرة وفاتكة. في جنوب أفريقيا أيام حكم نظام الفصل العنصري، حدثت مواجهات مؤلمة بين الضحية والجلاد، وتكاشف البيض والسود هناك وقلبوا سيرة الماضي، حتى ارتاحوا منها وتحرروا من ثقلها، وحسنا فعل ملك المغرب الحالي محمد السادس حين فتح المجال للمواجهة والنقد بين جلادي الأمن وضحاياه، رغم حراجة هذه المواجهات، ولكنها عادت بالخير على الجميع، ومنحت شعور الراحة لهم .

حتى يشفي الدمل حقا، يجب أن تترك الصديد يخرج منه. تلك هي المسألة.

إن مراكمة مشكلة الأقليات الدينية في العالم العربي أدى إلى تضخم الإحساس بالظلم لدى الأقلية، أولا بسبب المظلمة نفسها، وثانيا بسبب جحود الظالم لواقعة أو وقائع الظلم.

من اجل ذلك كله، فكم هو مبهج ومثير للاحترام أن نجد مثل نموذج السيدة سامية الجريئة الشجاعة، في مسألة تبدو بعيدة عن ما تحدثنا في هذه المقالة، ولكنها في نفس الوقت هي قريبة جدا من «الروح» التي نتحدث عن فقدانها وغيابها...

فائدة الاعتراف بالخطأ، ليس إكساب المعترف فقط للسلام الداخلي في نفسه، مع أن هذه ثمرة الثمرات، ولكن الاعتراف «العام» للمجتمع بالمشكلة هو سلام «خارجي» أيضا، يضع المشكلة في الضوء، ويمنع تضخمها المشوه في الظل.

لو اعترف السودان بحقوق سكان الجنوب، ودارفور، وأصغى إليهم واستمع إلى شكواهم لما وصل الحال إلى ما وصل، لو اعترفت بغداد منذ القدم بمظالم الكرد، لما وصلنا الآن إلى حديث الانفصال وإسقاط العلم من فوق سراي حكومة الإقليم في اربيل، ولو... ولو ...

هذا ما يجعل الإعجاب بقصة مثل قصة سامية، البعيدة عن السياسة ومشكلاتها إعجابا مستحقا، فهل من أرواح أخرى كهذا الروح السامية تضع عينها في عين المشكلة ولا تهرب منها...؟ نرجو ذلك، بل نحلم به، وأنا أول الحالمين.

[email protected]