إذا ذهبنا إلى أنابوليس

TT

ما زالت كل الدلائل تشير إلى أن مؤتمر الخريف في أنابوليس سوف يعقد في الكلية الحربية التي اختيرت مقراً له في تلك المدينة القريبة من واشنطن، وذلك على الرغم من تخيل البعض أنها اختيرت حتى يستطيع أولمرت وأبو مازن التوجه منها مباشرة وبسرعة الى العاصمة الامريكية لتوقيع الاتفاق الذي قد يمكن التوصل إليه.

وهذا في تقديري أضغاث أحلام، فأولمرت على غير استعداد للإقرار بالحقوق الفلسطينية، وأبو مازن لا يستطيع حتى إذا أراد أن يقبل بما هو مطروح، وكأن السناريو الذي حدث في 2000 سوف يتكرر، حين كان أبو عمار يرى أن الوقت غير مناسب لعقد قمة أمريكية فلسطينية إسرائيلية، لأنه كان لا يتوقع أن يكون ما سيطرح خلالها يتفق مع ما يحقق حتى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ولكن الرئيس كلنتون ألح عليه ووعده بأنه إذا فشل الاجتماع فإنه لن يلومه. وقد فشل الاجتماع فعلاً لأن ما طرحه الاسرائيليون كان أقل من الحد الأدنى ولم يجد عرفات عضداً، لأن الأمريكيين كانوا عزلوه عن الدول العربية مطالبين إياهم فقط بدفعه الى الموافقة على ما لا علم لهم به. وانتهى الأمر بتوجيه اللوم إلى عرفات، ثم تداعت الأحداث الى عزله في محبسه في المقاطعة، ثم دفعه دفعاً الى الموت.

ويبدو أن الأمر نفسه هو المستهدف من الإصرار على لقاء الخريف، مع فرق أن الرئيس كلنتون كان قد بدأ تحركه وهو حسن النية الى أن وقع في براثن الخديعة الاسرائيلية، المدعومة بركائزها داخل الإدارة، الذين روجوا لأكذوبة أن عرفات هو الذي تسبب في الفشل بعد أن عرض باراك عرضاً سخياً، ولكن بعض الشرفاء من الأمريكيين الذين شاركوا في المفاوضات كشفوا الحقيقة، ولست أشك في أنه لولا أن الرئيس كلنتون لا يريد أن يضعف موقف زوجته التي تعتمد على أصوات يهود نيويورك للوصول الى البيت الأبيض (ربما لتنتقم مما قد تعرضت له من إهانة ومن اتهامات بعدم الشفافية في تصرفاتها)، لولا ذلك لربما انتهى كلنتون الى الإقرار بحقيقية ما جرى في كامب ديفيد.

وما نشهد من الاستعداد له الآن مرة أخرى، هو الاستفراد بالسلطة الفلسطينية وهي في موقف أضعف مما كان فيه عرفات، ومحاولة التمويه بالإدعاء بالرغبة في التسوية، مع أن ما يبدو أن اولمرت مستعد لطرحه هو أقل القليل الذي لا يعترف بحق من حقوق الفلسطينيين. فالانسحاب الى خطوط 1967 ليس مطروحاً بل المطروح تبادل أرض بحيث تحصل اسرائيل على الأجزاء الصالحة للحياة والزراعة، في مقابل أراض صحراوية جرداء. وحق اللاجئين في العودة غير مطروح مع أن المطلوب هو الإقرار بالمبدأ مع القبول بقيود حول تطبيقه مثلما جاء في المبادرة العربية. وفي مقابل ذلك فإن الفلسطينيين المنقسمين في أضعف أوضاعهم لا تجري محاولة جادة لرأب الصدع بينهم لمواجهة المفاوضات وهم متحدون لا يتركون مساحة لمزيد من الوقيعة والدس، وبالتالي فهم لا يستطيعون أن يستوثقوا من الأرض التي يقفون عليها في مفاوضات هي في الحقيقة لا تستهدف إلا كسب الوقت والتغطية على أن الجزرة المطروحة ليست جزرة، ولكنها محاولة للتمويه على عصا غليظة لا تستهدف الفلسطينيين وحدهم بل المنطقة كلها. ونحن نرى كيف تجري الاستعدادات ضد إيران، حتى إذا كنت استبعد هجوماً مباشراً لا يتفق مع العقل والمنطق (ولكن أين العقل والمنطق؟).

كما أن الأوضاع في العراق تزداد سوءاً وتعقيداً ويتساءل المرء عن حقيقة ما وراء الأزمة بين بغداد وأنقرة من مؤامرات ودسائس. ولقد اتيح لي مؤخراً أن ألتقي في مناسبة اجتماعية مسئولا أمريكيا قريبا من الأوضاع في العراق، فسمعت منه أنه مطمئن الى أن الأمور تسير في اتجاه التحسن النسبي، ولكنه في نفس الوقت يرى أهمية وجود عربي ـ ومصري بالذات ـ لطمأنة الحكومة العراقية ـ على حد قوله ـ الى حسن النوايا. وكأن المشكلة هي حسن نوايا بينما هي في الواقع تداعيات سياسات أمريكية خاطئة قسمت العراق ووضعت واشنطن في سلسلة من المآزق العسكرية والسياسية والأمنية، تبحث عن شركاء يحملون معها جزءاً كبيراً يسمح للرئيس بوش بالتظاهر بأنه عندما يترك الحكم في نهاية العام القادم سيكون قد محا من الذاكرة جزءاً من العبء وربما يكون جزءاً من الحماقات التي دفعته اليها عصابة المتطرفين من الذين أسماهم البعض «آيات الله الأمريكيين».

وهكذا نرى العراق مقسماً وفي نزاع قد يتسع مداه مع تركيا، ونرى إيران معرضة لضغوط تتسبب في ردود فعل داخلية تعزز قوى متطرفة (على عكس ما خطط الأمريكيون) وردود فعل خارجية تدعم النفوذ الإيراني بدلاً من أن تضعفه لأنها تتيح فرصاً لم تكن متاحة لولا الأخطاء والحماقات ونرى محاولات تغذية هواجس الصدام الفارسي العربي ونرى الفلسطينيين منقسمين يتصارعون على سلطة غير موجودة، وعلى السيطرة على دولة ما زالت سراباً، ويساقون إلى مباحثات ثنائية تخفي الابتسامات الباهتة والسلامات والتمنيات بالصحة حقيقة خوائها، على طريق مفاوضات أوسع ليس المقصود منها إلا أن تكون فخاً أو غطاء أو ديكوراً مزيفاً يخصم من رصيد الحقوق الفلسطينية، ويضع العرب في مأزق.

ولست أتعب من تكرار الدعوة الى أن يلتقي العرب لكي يحددوا مسار المفاوضات ولا يتركوا هذا لغيرهم. كما أني أدعو الى أن تكون لقاءات الدول المجاورة للعراق لقاءات حقيقية وجادة ومتعمقة، تستند الى واقع أن الاختلاف بينها ـ لأسباب قد تبدو لبعضهم استراتيجية أو أمنية أو أيديولوجية ـ ليس هذا أوانه لأنه سيؤدي الى تدمير المنطقة وآمالها في مستقبل أفضل لن يتحقق إلا عن طريق حوار يحدد نقاط الالتقاء، ومجال التنافس المشروع دون تجاوز خطوط حمراء يعرفها الجميع، ويضمن مصالح كل الأطراف بالقدر الذي يمنع تصادمها الذي تدفع اليه وتؤججه قوى لها استراتيجية خبيثة تتلون وفق الظروف دون أن يتغير جوهرها.

اذا كنا سنذهب الى انابوليس، فلا أقل من أن نحمي أنفسنا من زوابع بحر متلاطم الأمواج ومن برد خريف تتساقط فيه أوراق الشجر بينما الآخرون متدثرون بنوايا لا يؤمن لها واستعدوا لها بتدابير وترتيبات ومؤامرات لكي يعطوا أقل القليل ويحصلوا على أكثر الكثير مستندين الى النظرية الامبريالية التقليدية «فرق تسد» التي من المفروض أن نكون تعلمنا منها إلا إذا كنا من هواة أن نلدغ من نفس الجحر مرات ومرات.