العراق.. الحاجة إلى تلك العمائم!

TT

لم يؤثر اختلاف العبادات بين العراقيين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فعلى حد عبارة المتكلم البصري أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ): «الكل يشيرون إلى معبود واحد»(الذهبي، سير أعلام النبلاء). لكن، عندما يتعلق الأمر بالمعاملات فهناك ما يسهل التعايش وهناك ما يلبده بالكراهية. وليس أصعب على الإنسان أكثر من إشعاره أنه غير طاهر بسبب ديانته. وللأسف قرأت لدى بعض الفقهاء، وما ظل مغروساً في العقول، ما سماه بـ«الاستقذار النفساني»! مما جعل إحداهنَّ، تحت تأثير المتابعة للمُقلَّد، أن تسأل فقيهها، وهي طبيبة: «هل تجوز نجدة جاري غير المسلم»؟ ولا يهمنا هنا الإفتاء بقدر ما يهمنا طرح السؤال من طبيبة! فتأمل الخراب «النفساني»!

ليست مقالتي خاصة بما يفرق بين الناس، بل هي محاولة للتذكير بما يتطلبه تعايش المجتمع العراقي من ممارسات عمائم ظلته بظلها من هجير الكراهية. وقديماً قيل: «إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ.. نصيب ولا حظ تمنى زوالها». وبالتأكيد سيتحول شعور المعزول إلى شعور بالاغتراب عن وطنه، وإذا ما وصدت بوجهه الأبواب، فالأرض واسعة و«باب الله مبذول الفناء»! جاءت المقالة تعبيرا عن قلق غير المسلمين من العراقيين، من موظفي ومستخدمي السفارات العراقية ودوائرها، فكلما وصل سفير أو ملحق جديدان من حزب ديني أخذهم القلق، فالمكان يصبح مكانه ويعامله بشروطه الفقهية. وهنا أتمنى على الدولة أن تضع أمام موظفيها (الدبلوماسيين) أن في الدين فسحة، لا يضيق فيها الوطن على أهله. وأبدأ بالإمام أبي حنيفة النعمان (قتل 150 هـ)، وأكررها إنه عراقي الأصل، فتح أبواب المساجد لبقية المواطنين من غير المسلمين (ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة). ولو أوصدت أبواب بيوت الله ببلد متنوع مثل العراق، قوضت المجاورة وانتهك التعايش. وقد ظلت تلك الفتوى حية بأرض العراق، ولم يمح أثرها، على الرغم من نزعات التشدد والقسوة، ونجد شاهد حضورها في سلوك رئيس علماء كردستان، في ما بعد، الشيخ معصوم خضر (ت 1964)، عندما فتح أبواب مسجده للآخر من مواطنيه.

أخبرني نجله فؤاد معصوم، وأنا أبحث عن شواهد تؤلف القلوب وتساعد على التعايش المريح، والعراق أصبح في مهب رياح التكاره والتباغض. قال: إن والده فقيه مدينة كويسنجق دعا، العام 1948، مواطنيه من اليهود والمسيحيين ليجتمعوا سويةً مع المسلمين بالمسجد، بعد عقد لقاءات معهم في دور عبادتهم، ولم يلتفت إلى مَنْ حاول إفساد تآلف المدينة.

وقطعاً للجدل حول توظيف أهل الأديان الأخرى ببغداد خرج قاضي القضاة الشافعي أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) بجواز تقليد وزارة التنفيذ لغير المسلمين. قال: «يجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم» (الأحكام السلطانية). وما بين التنفيذ والتفويض أن الأول ينفذ سياسة البلاد، من دون أن يُشرع أو يُحرك الجيوش.. إلخ. وكان جواب الصحابي أبي موسى الأشعري عندما اعُترض على تكليفه كاتباً من غير المسلمين بالقول: «لي كتابته وله دينه» (ابن الأخوة، معالم القربة).

وأجد الفقيه الشافعي الكمال بن يونس (ت 639هـ) قد اتكأ على تراث أخضر عندما: «عكف على الاشتغال يُدرّس ... حتى أنه كان يقرئ أهل الذمة التوراة والإنجيل» (الأسنوي، طبقات الشافعية). ويُخيل لي أن فقيه أهل الموصل المذكور، بممارسته هذه، قد تجاوز عصره، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تقبع تحت هيمنة القتل على الهوية الدينية، وتنجيس الآخر!

واليوم، فمما يخشى خطورته أن تنجيس الآخر، والنظر في ما يتناول من طعام، أكان على السمكة قشرة أم لا، أصبح تثقيفاً حزبياً. وقد لا يهم مثل هذا الجيل ما نُقل عن المرجع أبي الحسن الأصفهاني (ت 1946) أنه: «لا يستنجس أرباب الأديان الأخرى» (مجلة الموسم). ولآية الله محمد باقر الصدر (أُعدم 1980) رأيه المخالف لممارسة مَنْ عدَّ نفسه من أتباعه، وهو في السلطة حالياً: «أما الكتابي فطاهر في نفسه... ويجوز أكل الطعام الذي يباشره» (منهاج الصالحين).

وأخيراً ليس بعد ما نظمه الإمام محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) من تكريس للألفة والتضامن بين الناس. قال: «بنو آدم إنا جميعاً بنو أبٍ.. لحفظ التآخي بيننا وبنو أمِّ» (شعراء الغري). أقول: مَنْ هو من الممارسين التكاره أكثر تديناً من النجوم التي ذكرت، وهي نماذج من كثرة لا يسع المقال التبسط فيها. تذكروا مدى ظمأ العراقيين إلى مثل هذه الصدور الرحبة والعمائم الدريات!

[email protected]