أحيني اليوم و«موتني بكره»

TT

يروى أن رجلاً غنياً في بلد أوروبي سأل صديقه: لماذا يرميني الكل بالبخل، وهم يعرفون أنني أوصيت بأن تذهب جميع أموالي للفقراء بعد وفاتي. فقال له صديقه: دعني أخبرك قصة الثور والبقرة، فقد اشتكى الثور للبقرة يوماً قائلاً: الناس دائماً يطرون لطفك وجمال عينيك، فيما يستعملون جميع العبارات لذمي، ولا شك انك تجودين عليهم بالحليب ولكنني أعطيهم لحمي كله، فلماذا لا يحبونني؟! وأطرقت البقرة قليلاً ثم قالت: ربما كان ذلك لأنني أعطي خلال حياتي.

وبدوري أتساءل ما فائدة أن يعيش البعض وحياته صحراء قاحلة كلها (قحط في قحط)، لا يجد كل من حواليه لا عشباً يرعونه ولا ماءً يشربونه ولا أملاً يرجونه، غير سراب يمتد أمام عيونهم إلى ما لا نهاية، وهم يعرفون أن خزائنه الممتلئة تكاد تختنق بما فيها، وأسوأ من ذلك كله إذا امتد به العمر طويلاً طويلاً، وتساقط كل من حوله الواحد تلو الآخر، وذهبوا إلى الدار الآخرة، وبطونهم مقبورة من شدة الفقر والجوع، وإذا ما قدر له أن يودع بعد أن يبلغ من العمر أرذله، سوف يكتشف انه أوصى بثلث ماله لعمل الخير.

وقد يكون هذا أمر حسن، ولكن أروع من ذلك أن يقدم الخير في (حياته) أولا بأول، وهذا الثلث الذي أدخره إلى ما بعد وفاته، لماذا لا يوزعونه على أيامه وأعوامه، يمسح به دمعة مظلوم، ويشد من أزر ملهوف، ويستر بيوتاً تكاد أن تنهدّ على من فيها من شدة الحاجة؟!

فهذا الثلث الذي ادخره إلى ما بعد وفاته (ليس بمضمون)، فقد يغير الله ما بين ليلة وضحاها وضعه المالي، فتغدو خزائنه المتروسة قاعاً صفصفاً كحياته، عندها تكون وصيته مجرد حبر على ورق، لا تسمن ولا تغني من جوع.

وأرجو المعذرة لو أنني تجرأت وقلت: خير لكل صاحب مال أن يكون بقرة تجود بحليبها في كل يوم، من أن يكون ثوراً يعطينا لحمه وشحمه الممتلئ (بالكوليسترول) بعد أن يسقط. فالناس يطلبون القوت يوماً بيوم، وإذا كان هناك عمل خيري ثابت فمن الأفضل أن يشرع فيه صاحبه وهو لا يزال حياً يرزق.

وهكذا ترون أنني أخذت بناصية (الإرشاد والنصح)، ولم يبق لي إلاّ أن احضر لي سلماً لأقف فوقه خطيباً، فالحكاية أعجبتني وصدقت نفسي، وكدت أنسى من أنا؟!

لهذا أسارع وأعود إلى قواعدي سالماً ومسالماً ومعتذراً لكل ثور وبقرة، ممن فتح الله عليهم.

[email protected]