ضريح الديمقراطية

TT

العراق بلد المقابر. لا شيء يزهو ويزدهر ويلمع في بلاد الرافدين اعظم من الاضرحة الشامخة بقبابها ومنائرها المذهبة في كل مكان، في النجف وكربلاء والكوفة وسامراء وبغداد. ولا شيء يعبر عن المزاج الملانخولي للعراقيين كهذه المقابر وما يجري فيها من النحيب واللطم والضرب بالسلاسل على الظهور وبالفؤوس على الرؤوس. ولا شيء يحمل الثروة المستقبلية المستديمة لهذا البلد كهذه المراكز السياحية.

اعتقد أن الوقت قد آن اليوم ليضيفوا اليها ضريحا جديدا لا يقل هيبة وزهوا في موقع قصر الرحاب، جنوبي بغداد. يشيدون على ركامه هذا القبر المنيف بقبة شامخة مذهبة تحيط بها اربع منائر ذهبية وسبيل للعطشان ومغاسل للوضوء. إنه قبر الديمقراطية. يفدون اليه بالأكفان من كل جهات العراق في 14 تموز (يوليو) من كل عام ليستمعوا الى مقتل الديمقراطية وينوحوا ويبكوا ويلطموا على صدورهم ويضربوا السلاسل على ظهورهم ويشجوا رؤوسهم بالفؤوس والسيوف ويتركوا الدم يسيل جزافا على أكفانهم البيضاء حزنا وحدادا على ما فعلوه في ثورة 1958، يوم أبادوا الاسرة الملكية في قصر الرحاب ودمروا المسيرة الحضارية السلمية لبلادهم.

لم تكن المملكة العراقية دولة ديمقراطية بالمعنى الكامل، ولكنها كانت تسير رويدا رويدا نحو اكتمال الحكم الديمقراطي البرلماني الدستوري، وهو المسلك التدريجي المرحلي الذي ينبغي ان تبنى فيه الديمقراطية بالوجه الصحيح الذي يتجاوب مع المسيرة المرحلية لكل الشعوب المتخلفة.

سفك الضباط الاحرار دم هذا الحمل الجميل الصغير. وصفقنا لهم إعلانا لتخلفنا وسذاجتنا.

العراق بلد المقابر والمذابح. لم يكتف العراقيون بما فعلوه في عام 1958 وكرروا عملية ذبح الديمقراطية بعد تحررهم من نظام صدام حسين. ما جرى في العراق منذ هذا الحين دمر ايماننا بالديمقراطية وبقدرة الشعوب المتخلفة على التعامل مع عمليات الانتخاب والاقتراع والحكم البرلماني وحقوق الانسان وحرياته. ما حصل هو قتل فكرة نقل الديمقراطية ونشرها وفرضها ولو بالقوة، كما كنت اؤمن. حتى دعاة هذه المدرسة في واشنطن أخذوا يلومون رئيسهم على محاولة فرض الديمقراطية على شعوب غير مؤهلة لها ولا راغبة فيها.

وقام العراقيون بمهمة الجزار الذي ذبح الضحية.

كان من أول أخطاء العراقيين تفضيلهم الحكم الجمهوري على الحكم الملكي الذي تبناه الشريف علي بن الحسين. بالطبع، تتحمل الولايات المتحدة قسطا كبيرا من فشل المحاولة التي تبنتها ودعت اليها. وكما قلت في مناسبة سابقة، الولايات المتحدة ليست الدولة المؤهلة حقا لنشر الديمقراطية. فكل ما تفعله حكومتها يرتبط بذلك المعيار الأمريكي المقدس، وهو الفلوس وكسب الفلوس. إنهم يتهمون العراق بالفساد، وكانوا هم وشركاتهم من ساهم أولا في زرع الفساد، وكان رب البيت بالطبل ناقرا. امريكا لا تتبنى الديمقراطية كمفهوم انساني حضاري وإنما كبوابة تفتحها لشركاتها واستثماراتها وحاجياتها في إطار العولمة.

هذا حديث طويل وسأعود اليه.