الجذور التاريخية للعلاقات السعودية ـ البريطانية

TT

تتميز علاقة المملكة العربية السعودية ببريطانيا بسمات عديدة منها العمق التاريخي الذي مرت به من جهة، واستقلالية السياسة الخارجية في التعامل مع هذه العلاقات من جهة أخرى. فمنذ الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر الهجري/ القرن الثامن عشر الميلادي، كانت بريطانيا تتابع امتداد نفوذ الدولة وترقب اتجاهاتها ورصد اتساعها وأسبابه. ويعود أول اتفاق رسمي بين بريطانيا والدولة السعودية إلى عهد الإمام عبد الله بن فيصل عندما تبادل مع الحكومة البريطانية تفاهما مكتوبا في عام 1866م/ 1283هـ يحافظ على مصالح الطرفين. ولم تتطور العلاقات السياسية بين الطرفين بعد ذلك بسبب ظروف الدولة السعودية الثانية وانشغال بريطانيا في تدعيم نفوذها في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر خاصة بعد فتح قناة السويس سنة 1869م/ 1286هـ وتطور صناعة السفن البخارية.

وفي بداية عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وعندما تمكن من دخول الرياض سنة 1319هـ/ 1902م بدأت الاتصالات السعودية البريطانية من خلال مخاطبة الإمام عبد الرحمن الفيصل، والد الملك عبد العزيز، في الكويت القنصل البريطاني الكولونيل كمبل في بوشهر. ولقد انعكست الشخصية السعودية في تلك الاتصالات من خلال طلب المساعدة والاشارة إلى طلبات أخرى مقدمة من المنافس الرئيس لبريطانيا آنذاك، روسيا. وتدل تلك المراسلات المبكرة على استقلالية الموقف السعودي من جهة، وعلى عدم الخضوع أو الوقوع في اطار الحماية البريطانية التي طالت عددا من البلدان المجاورة من جهة أخرى.

وبعد نجاح الملك عبد العزيز في استرداد الرياض والبدء في توحيد المملكة العربية السعودية، أخذت بريطانيا في الاهتمام بالدولة السعودية التي عادت إلى الظهور بقوة في المنطقة، واتجهت بريطانيا إلى اعادة قراءة الأحداث في المنطقة من خلال ذلك.

ولاعتبارات سياسية واقعية، حرص الملك عبد العزيز على الاتصال ببريطانيا وتأسيس علاقات سياسية معها. فبريطانيا كانت تسيطر على الخليج العربي ولها نفوذها في عدن وعدد من المناطق المحيطة ببلاده. ورأى الملك عبد العزيز أنه من الحكمة البقاء على الاتصال ببريطانيا لضمان عدم تحركها ضده لا سيما اذا اخذنا في الاعتبار قوتها المتنامية في المنطقة، وحرصها على ضمان مصالحها الاقتصادية المرتبطة بالهند والتجارة معها.

واستمرت الاتصالات بين الملك عبد العزيز وعدد من الممثلين السياسيين البريطانيين في الكويت والبحرين وبوشهر لأجل ابعاد الانجليز عن الاضرار بمصالح الدولة السعودية الناشئة. ومن ابرز تلك الاتصالات ما تم بين الملك عبد العزيز والكابتن ويليام شكسبير، الممثل السياسي في الكويت والتي استمرت بين عامي 1910 ـ 1914م/ 1328 ـ 1332هـ. وكان أول لقاء بين الملك عبد العزيز والكابتن شكسبير في الكويت حيث كان الملك في زيارة للكويت سنة 1919م/ 1337هـ، واتسم ذلك اللقاء بالصفة غير الرسمية، وكان بمثابة التعرف وسبر أغوار شخصية الملك عبد العزيز من الجانب البريطاني. قال شكسبير معلقا على ذلك اللقاء الأول: «ابن سعود رجل وسيم ورائع، وهو أطول كثيرا من متوسط طول الرجال العرب.. وله وجه صادق جدا ولا يخفي سرا.. ويشتهر عنه أنه نبيل وسخي، ورجل لا ينحدر إلى مستوى الأعمال الدنيئة». ومن نتائج تلك المقابلة، قيام شكسبير بالتقاط عدد من الصور الفوتوغرافية للملك عبد العزيز وبعض اخوانه وابنائه، وأصبحت من أوائل الصور النادرة التي توثق تاريخ الملك عبد العزيز في تلك الفترة المبكرة.

وبعد عام تقريبا التقى شكسبير مرة أخرى الملك عبد العزيز في معسكره في ثاج وأجريا مباحثات ومفاوضات حميمة. وارتاح شكسبير لهذا اللقاء وعقد صداقة شخصية مع الملك عبد العزيز. واستطاع شكسبير التعرف على مواقف الملك عبد العزيز وطموحاته وأهدافه وأرائه في السياسة الدولية والعلاقات مع الدول الأخرى بما فيها بريطانيا. ولكن شكسبير، المعجب بشخصية الملك عبد العزيز واسلوب تعامله وسياسته الواضحة، حذر الملك عبد العزيز من احتمال عدم قدرته كمعتمد انجليزي من التأثير على الحكومة البريطانية التي ترى عدم مناسبة الدخول في شؤون وسط الجزيرة العربية، والحصول منها على جواب لاسئلته المهمة. ورد عليه الملك عبد العزيز قائلا: «أيا كان الجواب الذي سيقدم، المهم أن يكون جوابا صادقا، وأنه يفضل ان يحصل على الحقيقة من الانجليز بدلا من المراوغة التي علمته التجربة أن يتوقعها من الأتراك».

وبما أن الحكومة البريطانية في تلك الفترة كانت في نقاش متواصل مع الحكومة العثمانية لتوقيع معاهدة تحديد مواقع النفوذ في المنطقة فإنها رأت أن الدخول في مفاوضات مع الملك عبد العزيز قد يعرقل تلك المفاوضات من جهة، وأن الاتفاقية الانجليزية ـ العثمانية بعد توقيعها ستشمل المناطق التي يوجد فيها الملك عبد العزيز بحسب رأيها من جهة أخرى.

وفي عام 1913م/ 1331هـ التقى شكسبير بالملك عبد العزيز مرة أخرى في معسكره بالخفس ومكث معه اربعة أيام استمع خلالها إلى مزيد من الملاحظات والآراء من الملك عبد العزيز تجاه سياساته وعلاقاته. وقال شكسبير: «ذكر ابن سعود ان قوته في وسط الجزيرة العربية قد ازدادت لدرجة أنه لم يعد يخشى معها أيا من شيوخها أو حكامها.. وأن آل سعود على استعداد للاحتفاظ بما استردوه من سلطانهم القديم». ومن خلال أحاديث شكسبير مع الملك عبد العزيز خلال مقابلاته هذه، خلص في تقريره المرفوع للحكومة البريطانية الى القول: «يشرفني أن التمس اعادة النظر في كامل قضية علاقاتنا مع أمير نجد، اذ انني لا استطيع تفادي الانطباع بأن المسألة ستصبح ملحة قريبا، وأنه سيكون من المفيد لنا التوصل مسبقا إلى قرار محدد فيما يتعلق بعلاقاتنا مع ابن سعود».

وأمام الحاح السير برسي كوكس والكابتن شكسبير للالتفات الى الملك عبد العزيز واعطائه أهميته، أكدت الحكومة البريطانية على قرارها بعدم التدخل في شؤون وسط الجزيرة العربية، وطلبت من ممثليها عند مفاتحة الملك عبد العزيز في أي مسألة ان يتصلوا بها للحصول على تعليمات.

وبعد ضم الأحساء كتب الملك عبد العزيز للسير برسي كوكس يبلغه بذلك لعله يغير من موقف الحكومة البريطانية تجاهه وتبدأ في التفاوض معه على أساس مستقل. استغرب شكسبير من تحرك الملك عبد العزيز المفاجئ تجاه الأحساء وكتب إلى كوكس معبرا عن دهشته تلك قائلا: «لقد اختار اللحظة الأفضل وعالج القضية بمهارة فائقة، إذ يبدو أنه حصل على دعم الرجال المسؤولين في الأحساء نفسها». وواصل الملك عبد العزيز اتصالاته بالبريطانيين من أجل التفاهم معهم بشأن الوضع في المنطقة.

وفي عام 1915م/ 1334هـ كتب شكسبير عن مباحثاته الأخيرة مع الملك عبد العزيز قائلا: «عبد العزيز المفعم بالحب الشديد لبلاده والتقديس العميق لدينه ورغبته الحازمة لبذل غاية وسعه من أجل شعبه بتحقيق السلام والأمن الدائمين له وجد نفسه الآن في موقف صعب». وسبب هذا الموقف الصعب هو عدم تجاوب الحكومة البريطانية مع اتصالاته بالشكل المناسب لسلطته وللدولة السعودية الناشئة.

واثناء زيارة شكسبير للملك عبد العزيز في عام 1915م/ 1333هـ صحبه في طريقه إلى معركة جراب، ورفض شكسبير نصيحة الملك بارتداء الزي العربي. وكان شكسبير يراقب المعركة عن بعد بزيه الغربي مما أدى إلى استهدافه وقتله من الطرف المعادي لقوات الملك عبد العزيز. وبمقتل شكسبير في معركة جراب، رغم انه لم يكن طرفا فيها، فقد الملك عبد العزيز صديقا كان يحاول اقناع الحكومة البريطانية باتخاذ سياسة جديدة تجاه الوضع الجديد في وسط الجزيرة العربية.

كما كان شكسبير مقتنعا تمام الاقتناع بمكانة الملك عبد العزيز في المنطقة وقدرته على تأسيس دولة ذات نفوذ تنشر الأمن والاستقرار، ولذا بذل جهده لتحويل انظار الحكومة البريطانية اليه.

ونتج عن جهود شكسبير وكوكس توقيع معاهدة دارين (أو معاهدة القطيف) في اواخر عام 1915م /1334هـ بين الملك عبد العزيز والحكومة البريطانية تضمنت الاعتراف بالوضع الجديد في الجزيرة العربية وعدم قيام بريطانيا بالتعرض للدولة السعودية الناشئة. ويمكن قراءة هذه المعاهدة في ظروفها المكانية والزمانية واعتبارها انتصارا لسياسة الملك عبد العزيز الخارجية الناشئة في ذلك الوقت، حيث تمكن من جذب الحكومة البريطانية للاتفاق معه بشكل مستقل. فالملك عبد العزيز تمكن من انتزاع اعتراف بريطانيا بالدولة السعودية واحترام نفوذها بخلاف ما قامت به الحكومة البريطانية مع الامارات المحلية الأخرى التي تمثلت في توقيع معاهدات حماية فقط.

وفي عام 1916م/1335هـ لبى الملك عبد العزيز دعوة الحكومة البريطانية لزيارة البصرة. وتعكس هذه الزيارة الرسمية موقع الملك عبد العزيز في السياسة الخارجية البريطانية التي بدأت تميل الى التفاهم والتعاون معه بدلا من العمل ضد مصالحه من جهة، او اجباره على الخضوع للسلطة البريطانية من جهة اخرى.

وعند اشتداد الحرب العالمية الأولى لجأت بريطانيا الى الضغط على الملك عبد العزيز لفتح جبهة ضد تركيا من خلال القيام بحملة على حائل، وأرسلت الحكومة البريطانية بعثتين متتاليتين: الأولى رأسها المقدم هاملتون (المعتمد السياسي البريطاني في الكويت)، والثانية رأسها عبد الله فيلبي (الموظف بالممثلية السياسية البريطانية في العراق). وسجل فيلبي ما دار في بعثته تلك بكل تفاصيلها والمعاناة التي واجهها اثناء مقابلته الملك عبد العزيز في عام 1917م/1336هـ لاقناعه بتحقيق الرغبة البريطانية وفشله في ذلك. تعامل الملك عبد العزيز مع هذه المطالبة البريطانية بكل ذكاء وحكمة حيث أبدى استعداده للنظر في هذه الرغبة وطالب بالمساعدة العسكرية مستفيدا من الظروف التي تحيط بالحكومة البريطانية في المنطقة. وعندما وافقت الحكومة البريطانية على تقديم العون العسكري لم يقم الملك عبد العزيز بمهاجمة حائل ليقدم درسا دبلوماسيا للحكومة البريطانية التي علمت بعد ذلك انها تتعامل مع شخصية ذكية ومستقلة لا تستكين ولا تقبل أن تكون منفذة لمصالح الغير.

وبعد اتفاق بريطانيا مع الشريف حسين للقيام بالثورة العربية ضد الاتراك، اتجهت الحكومة البريطانية الى التركيز على علاقتها بالشريف حسين الذي قبل بجميع الشروط والوعود البريطانية. وبذل فيلبي جهودا كبيرة، مثل سلفه شكسبير، لاقناع الحكومة البريطانية بضرورة الاهتمام بالملك عبد العزيز والدخول معه في تعاون وتفاهم لاهميته وقدرته على النجاح، وشخصيته السياسية الواعية. ومثل سلفه شكسبير، جوبهت محاولات فيلبي تلك بالرفض والتجاهل من قبل الحكومة البريطانية. ولكن أحد الدبلوماسيين البريطانيين علق قائلا: «ان التقرير المنطقي والمتوازن الذي بعث به اخيرا فيلبي حول المهمة التي كلف بها لدى ابن سعود تجعلني ميالا الى الاعتقاد بأن تشخيصه للموقف الراهن صحيح». انشغل الملك عبد العزيز بضم اجزاء البلاد الى الدولة السعودية بما في ذلك حائل، وشعرت الحكومة البريطانية بضرورة العودة الى التفاوض مع الملك عبد العزيز لحماية مصالحها، حيث ادركت اهميته والحاجة الملحة للدخول في علاقات معه. وجاءت لقاءات العقير لتجمع الطرفين في عام 1922م/1341هـ من أجل تسوية الحدود بين نجد والعراق، وبين نجد والكويت، وانتهت الى توقيع بروتوكول العقير المشهور ومعاهدة المحمرة.

وعندما تمكن الملك عبد العزيز من دخول مكة المكرمة وبدأ في حصار جدة، شعرت الحكومة البريطانية مجددا بضرورة التعاون معه، وشرعت في تسوية الحدود بين نجد والعراق، ونجد وامارة شرقي الاردن وحل مشكلات الغارات القبلية بين الجانبين.

وفي عام 1925م/1343هـ بعثت بريطانيا السير غلبرت كلايتون لمقابلة الملك عبد العزيز الذي كان يعسكر خارج مدينة جدة ينتظر استسلامها ودخولها. وجاء اختيار الحكومة البريطانية للسير كلايتون نتيجة خبرته الطويلة في السودان ومصر وفلسطين وقدرته على المفاوضات الصعبة جدا. وعلى مدى ثلاثة اسابيع ظل فيها كلايتون يتفاوض مع الملك عبد العزيز في مخيمه بالقرب من بحرة، ونتج عن ذلك توقيع معاهدة حداء بشأن الحدود بين نجد وامارة شرقي الاردن في عام 1344هـ/1925م، ومعاهدة بحرة بشأن الحدود بين نجد والعراق في عام 1344هـ/1925م.

ويعكس هذا التحرك البريطاني الاهتمام بالوضع الجديد في الجزيرة العربية وقيام الدولة السعودية، ومحاولة حماية مصالحها في المناطق المحيطة بها. فلقد حرصت الحكومة البريطانية على حماية مصالحها في العراق وشرقي الاردن وفي امارات ساحل الخليج العربي، كما ان بريطانيا لم تدخل في معاهدات مماثلة مع أي من زعماء المنطقة بهذه الطريقة التي دخلت بها وتفاوضت مع الطرف الآخر بكل ندية واستقلالية مثلما تفاوضت واتفقت مع الملك عبد العزيز.

ونتيجة لموقع الملك عبد العزيز المتنامي، ونجاحه في توحيد معظم اجزاء البلاد، وتوقيعه اتفاقيات الحدود مع بريطانيا، شرع الملك عبد العزيز في العمل على الغاء اتفاقية دارين التي عقدت في عام 1915م/1334هـ، وترتيب معاهدة جديدة مع بريطانيا تأخذ في الاعتبار الوضع الجديد للدولة السعودية. ودخل كلايتون في مفاوضات صعبة جديدة مع الملك عبد العزيز تخللها انقطاعات كثيرة ومشاورات عديدة لاصرار الملك عبد العزيز على الارتقاء بمضامين المعاهدة ليصبح الطرف السعودي متكافئا مع الطرف البريطاني والأخذ في الاعتبار مصالح الدولة السعودية، بينما الحكومة البريطانية كانت تحاول استخدام هذه المناسبة لتضمين المعاهدة اعتراف الملك عبد العزيز بوضع بريطانيا ونفوذها في فلسطين. لم يقبل الملك عبد العزيز بذلك وطالب ايضا بضم العقبة ومعان باعتبارهما جزءا من الحجاز الى الدولة السعودية مما عقد الأمر على الحكومة البريطانية.

وفي عام 1927م/1345هـ وقعت بريطانيا معاهدة جدة التي اصبحت معاهدة عادلة بالنسبة للملك عبد العزيز والدولة السعودية، ولم تحصل بريطانيا على ما رغبته في شأن تضمين المعاهدة وضعها الاستعماري في فلسطين والاراضي العربية الاخرى.

ولقد مثلت المفاوضات التي تمت بين كلايتون والملك عبد العزيز لتوقيع معاهدة جدة حجر الزاوية في العلاقات السعودية ـ البريطانية، حيث ادركت الحكومة البريطانية اهمية الملك عبد العزيز وقوة شخصيته وسياسته الواضحة وحكمته.

وانتقلت العلاقات بين الطرفين بعد معاهدة جدة الى طور جديد يمكن وصفه بالعلاقات المتبادلة من حيث المصالح والتعاون بين دولتين لهما استقلالهما ومكانتهما.

وقامت الحكومة البريطانية برفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي في جدة الى مفوضية كاملة وعينت السير اندرو ريان في عام 1930م/1349هـ، ثم خلفه السير ريدر بولارد في عام 1937م/1356هـ، كما قام الملك عبد العزيز برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي السعودي في بريطانيا وعين حافظ وهبة أول وزير مفوض سعودي في لندن في عام 1930م/1349هـ، وواصل الطرفان علاقاتهما وفق الاطار الدبلوماسي والسياسي، وتمكنا من حل كثير من الاشكالات والمواقف السياسية من خلال الحوار والتفاوض، كما تمكنا من الارتقاء بالتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين البلدين الى مستويات عالية.

وشارك عدد من ابناء الملك عبد العزيز في عدد من المناسبات البريطانية والزيارات الرسمية لتوثيق العلاقات بين البلدين، كما تمت زيارة وفود رسمية بريطانية للمملكة العربية السعودية للغرض ذاته. ولم تقتصر اقامة العلاقات مع بريطانيا على التعامل مع القضايا السعودية المحلية، وهو شأن معروف في العلاقات الدولية، ولكن الملك عبد العزيز استثمر هذه العلاقات مع بريطانيا والدول الغربية الأخرى لخدمة ودعم القضايا العربية والاسلامية. وعلى رأس تلك القضايا العربية القضية الفلسطينية التي شغلت ذهن الملك عبد العزيز وابنائه الملوك من بعده واصبحت من المرتكزات الاساسية في عمق العلاقات السعودية ـ البريطانية.

وتواصلت المراسلات السعودية الى الحكومة البريطانية ملكا ورئيس وزراء ووزير خارجية للحصول على موقف بريطاني لصالح القضية الفلسطينية، ومنع تدهور الاوضاع في المنطقة، ودعم الفلسطينيين في المحافل السياسية وغيرها. وفي عام 1939م / 1358هـ عقد مؤتمر فلسطين في لندن وكان على رأس الوفد السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز، نائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية آنذاك، الذي كشف عن الموقف السعودي الواضح تجاه القضية الفلسطينية واعتبارها محورا مهما في سياستها الخارجية. وتشير الوثائق المنشورة عن ذلك الاجتماع الى موقف المملكة المتمسك بحقوق الفلسطينيين في اراضيهم وابلاغ ذلك الى الحكومة البريطانية والالتزام به.

ولم تتأثر العلاقات السعودية ـ البريطانية بتطورات الحرب العالمية الثانية حيث اتخذت المملكة العربية السعودية موقف الحياد وتعاملت مع بريطانيا بما يخدم المصالح السعودية وفقا للأطر السياسية المعروفة. وعندما احتاجت الحكومة البريطانية الى نقل بعض من قواتها من العراق الى جهات مصر لدعم قوات الحلفاء هناك استأذنت الحكومة البريطانية من المملكة العربية السعودية للمرور عبر اراضيها الشمالية ورأى الملك عبد العزيز عدم الممانعة في ذلك لعدم مخالفته للحياد حيث لم تشترك قوات سعودية في الحرب، ولم تستخدم الاراضي السعودية منطلقا لاعمال عدائية تجاه اطراف أخرى. وفي عام 1945م/ 1364هـ عبر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في مقابلته التاريخية مع الملك عبد العزيز في الفيوم بمصر عن تقديره لجهود الملك عبد العزيز وسياسته الثابتة على مبادئها، كما شكره على موقفه الواضح اثناء الحرب العالمية الثانية. وفوجئ تشرشل ان معظم الحديث في ذلك اللقاء التاريخي ركز على موضوع القضية الفلسطينية الذي فرضه الملك عبد العزيز، بينما كان من المتوقع ان يتناول المملكة العربية السعودية وموقعها السياسي والاقتصادي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما حول تشرشل موضوع الحديث الى سورية ولبنان اعاد الملك عبد العزيز الحديث الى موضوع فلسطين مرة اخرى ليعلن عن مركزيته في السياسة الخارجية السعودية.

وتواصلت العلاقات السعودية البريطانية في الاربعينات والخمسينات الميلادية لتزداد قوة، وبدأت البعثة العسكرية البريطانية اعمالها في الطائف في عام 1947م/ 1368هـ للاسهام في تأسيس الجيش السعودي وتطوير قدراته الفنية. واستمرت العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين البلدين الى يومنا هذا معتمدة على تلك الجذور التاريخية التي أسهمت في بناء هذه العلاقات.