لبنان.. بين الراعي والذئب

TT

أما وقد تحولت انتخابات الرئاسة في أصغر دولة من دول العالم العربي (وأكبرها عقدا) إلى قضية «دولية» تناقش بين باريس والفاتيكان ونيويورك وواشنطن والقاهرة واسطنبول قبل أن تبت في بيروت.. لماذا لا يستثمر اللبنانيون هذا الاهتمام الدولي لينتجوا، ولو مرة في التاريخ، استحقاقا لبنانيا خالصا، ويعيدوا رئاسة لبنان إلى لبنان؟

مؤسف أن «اللالبنانيين» من حملة الهوية اللبنانية لم يتجاوزوا بعد «تقليد» انتظار قرار الخارج في استحقاق الداخل. ولكن غداة بيان ما سمي بـ«اللقاء السباعي» في اسطنبول (3/11/2007) لم يعد مقبولا أن يبقى لبنان عنوانا محيرا للأسرة العربية والدولية، ولم يعد مستساغا ان يستمر وضعه الداخلي في حالة «الفصام القومي» التي يعاني منها الآن. وغير خافٍ أن خطورة هذا الوضع تكمن في احتمال تحول صدام الولاءات إلى نزاعات مذهبية الطابع.

قد تبدو تعقيدات انتخابات عام 2007 الرئاسية ظرفية أو مرحلية بالنظر لتقاطعها مع التطورات الإقليمية الضاغطة على الشرق الأوسط بأكمله بحيث تبرر الاهتمام الدولي الاستثنائي بها. ولكن «الوحي» الخارجي كان الناخب الأول لرئيس الجمهورية اللبنانية منذ استقلالها الاسمي عام 1943. وإذا كان اللبنانيون تعايشوا، على مدى سنوات «الاستقلال»، مع هذا «الوحي» فقد يعود بعض الفضل في ذلك إلى توسل «الوحي الخارجي» لقنوات دبلوماسية مستترة ومتسترة جعلت انتخاب رئيسهم يبدو وكأنه خيار داخلي «يتماشى» مع تطورات المرحلة الإقليمية والدولية، وفي أسوأ الحالات خيار تجاوب المجلس النيابي معه في اقتراع «ديمقراطي» يحفظ ماء وجه اللبنانيين.

ولكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في الثمانينات بدّل جذريا هذا التقليد المهذب بعد أن دهست الدبابات الإسرائيلية دبلوماسية «الوحي الخارجي» وحولت الانتخاب الرئاسي عام 1982، إلى عملية تعيين «قسري» باقتراع نيابي نتائجه مقررة سلفاً.

هذه السابقة التاريخية سهلت، في ما بعد، لنظام الوصاية السوري تحويل الانتخاب الرئاسي عامي 1989 و1998، إلى اقتراع نيابي «طوعي».. ولكن على اسم مرشح واحد منتقى سلفا وبعناية استخباراتية فائقة.

على خلفية هذا الماضي القريب، تتجاوز المشكلة التي تعامل معها «اللقاء السباعي» في اسطنبول قضية أي رئيس يريد اللبنانيون... إلى قضية أي لبنان يريدون. والسؤال لا يبدو غريبا على دولة لم تنقض أكثر من ثمانية عقود على كيانها الجغرافي الراهن، ففي مفهوم اتفاقية سايكس ـ بيكو كان «لبنان الكبير» نطاق ضمان للأقلية المسيحية في الشرق الأوسط وظل كذلك إلى أن صنفه اتفاق الطائف كيانا عربيا «نهائيا» لجميع أبنائه. رغم ذلك، لا يزال لبنان في رؤية حزب الله مثلا مجرد «ساحة» من ساحات الشرق الاوسط المفتوحة على التجارب الاصولية وفي «آيديولوجية» الاحزاب والمجموعات التي تدور في الفلك السوري مجرد ملعب خلفي لنفوذ دمشق. في قناعة شريحة واسعة من اللبنانيين لا يزال لبنان وطن الآباء والأجداد، وربما الأحفاد أيضا أن أطال الله ـ والجيران ـ بعمره. ولكن واقعه السياسي الراهن يشير إلى انه حلبة مقارعة بين الشمولية الأصولية والديمقراطية الغربية، ظاهرا، وخط تماس لصدام المصالح الاميركية والإيرانية ـ السورية باطنا.

على خلفية هذه الاعتبارات يصح إدراج بيان اللقاء السباعي في اسطنبول في خانة التدخل الخارجي في الشأن اللبناني. مع ذلك يشكل هذا «التدخل» العربي ـ الغربي العلني فرصة تاريخية قد لا تتكرر لمساعدة اللبنانيين على تقديم اللعبة الديمقراطية الداخلية على «الوحي» الخارجي في اختيار رئيسهم الجديد، فتحذير البيان من «التدخل والترهيب في العملية الانتخابية» واعتباره ذلك «أمرا غير مقبول» يعيد للبنانيين، ولو نظريا، «حرية» تسمية مرشح أو أكثر للرئاسة بعد أن سلبهم «الخارج» هذا الحق طيلة سنوات استقلالهم الهش.

هل يلتقط نواب لبنان هذه الفرصة ويوظفونها في قيام دولة الاستقلال؟

مؤسف ان انتخابات الرئاسة، في حسابات بعض الأحزاب المحسوبة «لبنانية»، ليست «قصة رمانة.. بل قلوب ملآنة» من دعاة الاستقلال عن سلطة الوصاية. وبالنسبة لهم إحباط الانتخاب ـ والاستقلال ـ أعلى شأنا من استغلال الفرصة التاريخية التي وفرها بيان اسطنبول.

رحم الله من قال:

لا يلام الذئب في عدوانه

إن يك الراعي عدو الغنم