توسكانيا

TT

إيطاليا تناديك، تبهرك وتغريك، تفتنك وتضع يدها برقة في جيبك حتى تنفق كل ما لديك.

لم أكن أعرف هذا كله حين قررت أن أتسلق أسوار العرف. وبدلا من أن اشتري لزوجي هدية احتفالا بمرور ستين عاما على وصوله الى العالم، فاجأته برحلة الى توسكانيا في شمال غربي ايطاليا. توسكانيا وعاصمتها فلورنسة تشتهر بالمناظر الطبيعية والارث الحضاري والمعماري والفني. ففي توسكانيا بدأ عصر النهضة، ومن توسكانيا وجدت الفنون والعلوم والتراجم والافكار طريقها الى اوروبا لتخرجها من الظلمات الى النور.

ملايين من عشاق التاريخ والثقافة يتوافدون على فلورنسة سنويا بحثا عن معنى. ومن النساء الباحثات عن الاناقة. فصناعة الموضة الايطالية تبدأ هنا.. ولكني والله اعلم لم اكن أدرك على وجه التحديد لماذا قصدت فلورنسة.

بانتظاري كانت مفاجأة لا تخطر على بال. فمن الوهلة الاولى شعرت بانقباض وبهم يعتريني ورغبة في الفرار. فالمدن في اعتقادي لها روح ولو انصت باهتمام لسمعتها تتحدث عن نفسها.

في هذه المدينة نشأت وتجذرت فكرة الافلاس. فقد كان صغار التجار يعرضون بضائعهم فوق عربات على جانبي الجسر العتيق. يقترضون المال لشراء البضائع وتأجير العربات التي يعرضون عليها البضائع. فإن فشل التاجر في دفع الدين جاءت الشرطة وكسرت العربة (البانكو) والتي بدونها لا يسمح للبائع بأن يبيع. ومن هنا نشأ مفهوم البانكوروتو أو العربة المكسورة، والذي عرف فيما بعد بالبانكربتسي أو الافلاس. وفي عهد اسرة ميديتشي منع كل الباعة من البيع الا من تجار الذهب.

صفحات اخرى من تاريخ فلورنسة تتحدث عن الدمار بالفياضانات وصراع المال والسلطة، الى جانب صراعات دينية. ولم اكن أعرف ايضا ان فلورنسة هي مسقط رأس ماكيافيللي صاحب الفكر السياسي، الذي شكل سلوكيات شعوب أوروبا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه فلورنسة هي ايضا مسقط رأس دانتي اليجيري صاحب الكوميديا الالهية، التي تعتبر اهم عمل ادبي افرزته اوروبا في العصور الوسطي. قائمة الاسماء اللامعة من ابنائها طويلة طويلة.. من دوناتيلو الى دافنشي وبوكاشيو الى فرانكو زيفاريللي المخرج اللامع في عصرنا الحديث.

وفي تاريخ فلورنسة ايضا صفحات من تاريخ أسرة ميديتشي التي بسطت على المدينة نفوذا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا دام لمئات السنين. ويقال ان كوزيمو دي ميديتشي كلف المترجم فيتشينو بترجمة الفلسفة اليونانية، ولكنه فجأة ولسبب غير معلوم امره بالتخلي عن ترجمة أي عمل سوى «الهيرماتيكا» وهي كتابات فلسفية نسبت فيما نسبت الى (تحت) في مصر القديمة، وإلى النبي ادريس والى الاله الإغريقي هيرميس الذي يكنى بالرسول.

كل تلك الخيوط تجمعت في فلورنسة القرن الحادي والعشرين، وطغا بعضها على بعض فاصبحت فاتنة توظف عبقرية الماضي لتأسر محبيها. فهي مدينة تعتمد حاليا على المادية الحسية.. كل ما فيها يفتن الحواس الخمس، جميلة كالغانية تدعوك، ولكنها لا ولن تحبك. الكاتدرائية التي تتوسط الميدان الرئيسي، ترمز بضخامتها وزينتها المفرطة الى أهمية فلورنسة العصور الوسطى، وهي بالفعل قلب المدينة الذي كان رمزا تتمثل فيه روحانية الدين المسيحي، فاصبح اليوم قلبا ينبض بحب المال والتجارة.

كيف هربت والى اين، هو موضوع لحديث آخر ان شاء الله.