كم نحن سعداء أنّك مرتاح!

TT

في عالم مضطرب يسود بعضه العنف والقتل والاحتلال والاستيطان يطلّ علينا الرئيس بوش، رئيس القوة العسكرية الأشرس في العالم، بمزاج مفعم بالحبور، وكأنّه تناول ليتراً من الشامبانيا قبل ظهوره أمام الكاميرا، ليعلن للملأ أنه سعيد جداً بموقف فرنسا من قضايا بورما ودارفور وكوبا! دون أن يذكر في البداية العراق أو فلسطين. فقد أمتع الرئيس بوش الحضور بروح الفكاهة حين قال إنه لا يرى وزير الخارجية الفرنسي، وإن الرئيس ساركوزي يقف حائلاً دونه، وحين سأله أحد الصحفيين قائلاً: السيد الرئيس، أجابه بوش: «أي رئيس؟ هناك وفرة من الرؤساء وعليك أن تسمّي!». وفي الختام قال بوش إذا سألتني ما إذا كنت مرتاحاً من الرسائل التي أرسلتها حكومة ساركوزي بالطبع أنا مرتاح. وأكّد في البداية والختام «على القيم الأساسية والكونية» التي يتشاطرانها! وعلى دعمهما «للحريّة» و«للديمقراطيات» الناشئة!

لكن، بعيداً عن الحبور والفرح الذي حاول الرئيس بوش أن يضفيهما على جوّ المؤتمر الصحفي، فإنّ السبب الحقيقي الكامن وراء السعادة الاستثنائية التي عبّر عنها الرئيس بوش هي أن ساركوزي أظهر بشكل لا لبس فيه وكأنّ فرنسا اليوم قد أخذت دور بريطانيا واستراليا مثلاً في التبعيّة المطلقة لما ترسمه الولايات المتحدة من خطط وسياسات وأهداف في العالم بما في ذلك لبنان وأفغانستان والعراق وإيران. فقد بدا ساركوزي مقتنعاً بعد «تبادل المعلومات الاستخباراتية» بأنّه من غير المقبول أن تمتلك إيران أسلحة نووية، بدون أن يذكر أن إيران تعلن أنها تريد امتلاك المعرفة النووية للأغراض السلمية، وحسب، وأن حليفتهما إسرائيل تمتلك مئات القنابل النووية التي تستهدف كلّ العواصم العربية. كما أكّد ساركوزي عن قناعته «بجدوى المقاطعة الاقتصادية لإيران»، علماً أنهما ضد المقاطعة العربية لإسرائيل! وأنها تنهك الشعوب لا الحكومات، وقد أثبتت الدراسات حول حصار العراق لمدة عشر سنوات أن مليونا من أطفال وشيوخ ومرضى العراق هم الذين دفعوا الثمن. ولتأكيد ولاء فرنسا الجديد للولايات المتحدة فإنها ستكون أكثر انخراطاً في أفغانستان وستعتمد عليها الولايات المتحدة في التوصل إلى ما يرضي الدولتين في لبنان.

إن اللافت في هذا المؤتمر الصحفي هو أن الرئيس بوش لم يذكر العراق بل ذكر بورما وكوبا، وربما لو كان المؤتمر قد انعقد اليوم أو غداً، لذكر جورجيا كإحدى الديمقراطيات الناشئة، إلى أن تساءل أحد الصحفيين لماذا تمّ إغفال العراق؟ وحين سأله الصحفي كيف الخروج من «المستنقع» العراقي؟ فأجاب الرئيس بوش أن كلمة «مستنقع» تلفت الانتباه وأضاف: «لو كنت عشت في العراق وعشت تحت الديكتاتورية، لكنت قلت اليوم، يا إلهي أحب الحرية، لأن هذا ما حدث» لو كان الرئيس بوش التقى بأحد العراقيين الذين دمّرت حربه بيوتهم وتاريخهم ومدارسهم وجامعاتهم وقتلت مليوناً من أطفالهم ورجالهم ونسائهم لعرف طعم هذه الحريّة التي يتحدّث عنها. أما الرئيس ساركوزي فقد أراد للعراقيين أن يتعلّموا كيف «يعيشون سويّة في عراق موحد، في عراق متنوع، حيث تتعلّم كل فئة من العراقيين العيش مع الفئات الأخرى». كم يبدو هذا الكلام مسيئاً للعراقيين الذين عاشوا آلاف السنين من جميع الفئات والأعراق، يغتني كل طرف منهم بالطرف الآخر ويتعلّم منه ويعلّمه، في حين لم تتعلّم فرنسا بعد العيش في فرنسا متنوعة، فتراها تحرم فئة ضعيفة من الفرنسيين حق الحجاب! والحقبة الوحيدة التي بدأ الحديث فيها عن تقسيم العراق وعن طوائف وملل، هي بعد الاحتلال الأميركي للعراق الذي كان أوّل من استخدم لغة طائفية لم تشهد لها المنطقة مثيلاً.

واللافت في المؤتمر الصحفي أيضاً، وفي كلّ ما قاله بوش وساركوزي هو أنهما قادمان من عالم القوة والهيمنة ويتحدّثان عن القيم «الكونيّة» و«القيم الأساسية» التي يمثّلانها وعن «رغد العيش في المجتمعات الحرّة» بينما يعدّون العدّة لإعطاء الدروس الشموليّة المعهودة للشعوب الأخرى كي تتعلّم كيف تحكم نفسها على الطريقة الغربية فقط، و«بالشّكل الديمقراطي» الذي ارتآه الغرب لها! ماذا قال الطغاة مثل هتلر وستالين وغيرهما، غير ذلك! أمّا معاناة هذه الشعوب الناجمة عن الاحتلال العسكري المباشر، وانعدام الأمن لها وانعدام مقوّمات الحياة الطبيعيّة، كما هي الحال اليوم في العراق وفلسطين والصومال، فهذا ما لم يرد في المعلومات الاستخباراتية التي تمّ تبادلها بين بوش وساركوزي. لم يرد في تلك المعلومات أنّ قرابة خمسة ملايين لاجئ عراقي داخل وخارج العراق سلبتهم الحرب استقرارهم وكرامتهم وأمنهم وأعزّ الأولاد أو الأزواج.

كما لم يرد في تلك المعلومات أنه منذ الإعلان عن مؤتمر أنابوليس تصاعدت الحملات الإسرائيلية لقتل الشباب الفلسطيني واعتقاله يومياً ومصادرة مئات الهكتارات من أراضي القدس وضمّها، واستخدام الاجتماع القادم والتّوق للسلام، مظلّة لتنفيذ أشدّ سياسات الاحتلال إجراماً، وإذا ما صدر أي احتجاج تُوجّهُ التهمة للفلسطينيين بأنّهم يعرقلون الجهود المبذولة من أجل التوصّل إلى سلام! الرئيس ساركوزي، كعادة الغربيين، تحدّث عن القيم التي دعا «الجميع للدفاع عنها» والسؤال هل هي قيم تؤمن بالكرامة الإنسانية المتساوية، وهو الذي يرفض مجرّد تقديم الاعتذار باسم شعبه للشعب الجزائري عن جرائم الإبادة الفرنسيّة التي قتلت 1.5 مليون مدني؟، أم هي قيم تؤمن «كما قال الرئيس بوش» بوجود «قتلة» في الشرق الأوسط، وهو بالطبع لا يرى في جنوده ومرتزقته من البلاك ووتر قتلة، فكلّ أنواع القتل والتشريد والجريمة التي يرتكبونها في العراق وفلسطين هي من أجل «الحريّة» و«الديمقراطية» وهو ربّما سعيد لذلك! ولأعيد كتابة ما قاله الرئيس بوش ليصبح أكثر تطابقاً مع الواقع المُعاش. قال الرئيس بوش: «أليس من اللافت بأن المناطق التي يتواجد فيها العنف بنسبة كبيرة هي المناطق حيث نجد الديمقراطيات اليانعة تحاول أن تحكم قبضتها، سواء أكان هذا في العراق أو لبنان أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة». والحقيقة هي أن هذا العنف موجود بسبب الاحتلال الأجنبي والتدخّل الأجنبي والذي لولاه لأحرزت هذه الشعوب ديمقراطيتها وازدهرت وانتفى العنف عن شوارعها ومدنها وقراها منذ زمن بعيد. إن الرئيس بوش يرى الصورة معكوسة: فالعنف والاحتلال يعرقلان الديمقراطيات الناشئة وليسا محفّزيْن لها، والعنف والاحتلال يتناقضان مع «القيم الكونية» التي قال إنه يحملها باعتزاز مع الرئيس ساركوزي، والعنف والاحتلال يتناقضان مع الكرامة البشرية ومع حرية وازدهار وأمن البشر. إن عدم ذكر معاناة شعب العراق وشعب أفغانستان وشعب فلسطين دليل قاطع على أنّ المعلومات التي تبادلها الرئيس بوش مع ساركوزي لا تأخذ في الحسبان تأثير سياساتهم العسكرية على حياة ملايين البشر في هذه البلدان، ولا تسجّل هذه المعلومات مئات العراقيين والفلسطينيين والأفغان الذين يواجهون حتفهم كلّ يوم لا لذنب ارتكبوه بل لأن موقع بلدهم الجغرافي وثرواته النفطية أو الباطنية هي محطّ أطماع قادة «العالم الحرّ» الذين يتحدّثون عن «الحريّة» و«الديمقراطيّة» لشعوبهم وبلدانهم ويأتون بجحافلهم العسكرية إلى بلداننا ليشيعوا فيها الخراب والدمار والقتل. ومن منظور ما، لا نستطيع أن نلقي اللّوم عليهم فهم يعملون ما يعتقدون أنّه هام لشعوبهم وبلدانهم ولثرواتهم ومصالح شركات السلاح والنفط لديهم، ولكن من يقول ما يعتقد أنه ضروري لبلداننا نحن؟ وكيف يمكن للعرب جميعاً أن يشكّلوا المرجعيّة التي تتصدّى لتلك المرجعيّة الشموليّة التي تعيدنا بكلّ وضوح إلى الحقب الاستعمارية البغيضة؟ إنّ ما يجري لشعوبنا من تدخّل زوجة الرئيس ساركوزي لإطلاق سراح الممرضات البلغاريات، وسفر زوجها إلى تشاد من أجل إطلاق سراح خاطفي الأطفال، ومنح الحصانة لمرتكبي جرائم الإبادة والتعذيب في العراق وفلسطين يُري أنّ «القيم الكونيّة» التي يتحدّثون عنها هي أنّهم يثمّنون حياة الإنسان الغربي، حتى إن كان قاتلاً أو سارقاً أو خاطفاًً، من دون إعارة أي اهتمام لحياة ومستقبل أطفالنا. لا شكّ أن الواجب علينا يقتضي حماية أطفال ليبيا وأطفال تشاد وأطفال فلسطين والعراق ولبنان، ولكن كيف يمكن فعل ذلك من منظور التبعيّة السياسيّة، وحتى الفكريّة والنفسيّة، للقاتل والإيمان بعدالته وموضوعيّته ونزاهته وحريّته وديمقراطيّته؟! رغم كلّ ما يجري أمام أعيننا ما زال بعض العرب يناشدون القتلة لإنصافهم بدلاً من البحث في أسباب قوة العرب والعمل على إحياء هذه الأسباب بطريقة علمية واضحة. لقد استقلّ ساركوزي الطائرة وسافر إلى التشاد للضغط من أجل إطلاق سراح الفرنسيين خاطفي الأطفال، ولكن من يستقلّ الطائرة من العرب ويتّجه إلى الولايات المتحدة من أجل سامي الحاج وآلاف العرب المعتقلين في سجون الاحتلال، السريّة منها والعلنيّة؟

لقد أبدى بوش وساركوزي ارتياحهما لأنهما يشعران بنشوة انتصار قواهم العسكرية في مناطق مختلفة في العالم، وبنشوة الغنائم التي وضعوا أيديهم عليها من خيرات هذه البلدان. أمّا الألم الذي يسبّبه هذا الاحتلال الدموي المقيت والنهب الاستعماري فتتحمّله شعوبنا، ولن يتحدّث، لا بوش، ولا ساركوزي، ولا أيّ من هؤلاء المنتشين بانتصار شموليّتهم الدمويّة التي يسمّونها «القيم الكونيّة» عن معاناة ضحاياهم من شعوب البلدان التي يقهرونها ويحتلونها. فمتى سنرى قيادات العرب تلتقي بفرح وحبور لتعلن تضامنها مع بعضها وتُري العالم برمّته أنها جزءٌ حقيقي من الأسرة الدولية؟ متى ستُري هذه القيادات كرامة أمتها غاليةً وعزيزةً على الجميع رغم ما قد يعتريهم من خلاف؟!