تونس واستحقاقات «التغيير»

TT

تعيش تونس خلال هذه الأيام على وقع الاحتفال بالذكرى العشرين للتحول التي يعود الى يوم 7 نوفمبر 1987 تاريخ انتهاء مرحلة الحكم البورقيبي وبداية مرحلة حكم الرئيس الحالي زين العابدين بن علي، الذي تبنى شعار «التغيير»، كعنوان لمرحلته الجديدة. وبالطبع فإن مضي عشرين عاما من عمر النظام والدولة والشعب والنخب ليس زمنا بسيطا، بل انه يمكن أن يمثل أداة قياس، تقف فيها تونس عند المنجز والمنشود وغير المتحقق على اعتبار أن الشعوب عادة ما تكترث بما لم ينجز بعد، وإن كانت تتحسس في معيشتها أهمية المكاسب التي تحققت. ولعل من زار تونس وتجول في شوارعها ومدنها واحتك بنمط حياة التونسيين، قد أدرك أنه في بلد لا تنقصه مظاهر الحداثة، وأنه قطع أشواطا كبيرة في عدة مجالات. بالإضافة، الى أنه استطاع أن يحفظ نفسه في الوقت الذي كانت فيه الجزائر وهي البلد المجاور تعاني ويلات الأصولية والعنف طيلة عشرية كاملة.

ولكن هل تجسد مفهوم «التغيير» بكل استحقاقاته وشروطه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالشكل الذي يشبع توقعات التونسيين مجتمعا ونخبا ومعارضة؟

من المهم القول إن التغيير بالمعنى الاصطلاحي هو التبدل الذي يطرأ على مختلف البنى الاجتماعية، والذي يمس جميع أنواع الفاعليات وما يرتبط بها من التزامات تقضي إعادة النظر في الوسائل والامكانات، لذلك فإنه لا يمكن أن يكون جزئيا فقط. والتغيير كمشروع سياسي يخضع كما نرى الى دينامية متواصلة وصيرورة لا تتوقف، بمعنى أن النخبة السياسية الحاكمة عندما تتبنى مفهوم التغيير، فهي تلزم نفسها بالضرورة برحلة لا مجال فيها لأي استراحة أو نقطة وقوف إذ يخضع الى استمرارية لا بد أن تطول. ومن خلال الخطاب الذي ألقاه الرئيس بن علي يوم الأربعاء الفارط، نلحظ استبطان مقولات الخطاب لهذه المسألة الشيء الذي يظهر في سلسلة القرارات المتخذة والتي تعكس الوعي بأن مسيرة التغيير بمعنى التطوير ما زالت متواصلة على كافة الأصعدة، وبالخصوص فيما يتعلق بمجال الاعلام وبملف المعارضة اللذين يأتيان على رأس قائمة التطور المنشود.

وإذا ما أردنا أن نحدد النقطة التي تقف عندها تونس اليوم بين البلدان العربية، فإننا سنكتشف أنه رغم صغر مساحتها الجغرافية ومحدودية إمكانياتها المادية وتواضع ثرواتها الطبيعية، فإنها قد تمكنت من إصابة أهداف نوعية. من ذلك اتساع حجم الطبقة الوسطى الى قرابة 80 في المائة من مجموع السكان وتقلص نسبة الفقر وتحسن مستوى الدخل الفردي.وإقتصاديا هناك حركة لتعصير المؤسسات وتضاعف حجم الصادرات ثلاث مرات خلال العشرين عاما ووصول حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة الى 900م دينار سنويا منذ 2003. بالإضافة الى أن تقرير 2005 لمنتدى دافوس، قد منح تونس المرتبة 40 من مجموع 117 بلدا. كما تعزز ملف المرأة من تنمية رصيدها الحقوقي قانونيا وتطورت نسبة حضورها في الحكومة، وفي المجالس البلدية ومجلسي النواب والمستشارين.

وفي مقابل هذه المكاسب والتطورات لا نستطيع أن نغفل أيضا عن صعوبات أخرى تعيشها تونس، ولم تذللها الى حد الآن بالشكل المنتظر، من ذلك نسبة البطالة غير العادية خاصة بين حملة الشهادات العليا. كذلك الحضور الفعلي للمعارضة في الفعل السياسي في تونس لا يزال متواضعا. ونفس الشيء بالنسبة الى قطاع الاعلام الذي تجمع كل الأطراف على أنه ليس في مستوى الطموحات المرجوة منه، ويتفق حول هذا الموقف الجانب الرسمي وأغلبية الإعلاميين.

ونعتقد أن هذه الصعوبات وغيرها، بالإمكان مجابهتها بتجسيد القرارات الجديدة المعلنة في الخطاب المذكور: ذلك أن قرار إلغاء الرقابة الإدارية على الكتب والمنشورات والأعمال الفنية عند الايداع القانوني وجعل الرقابة وإصدار قرارات المنع من النشر من مشمولات القضاء وحده، لا يختلف اثنان في أهميته. فهو يدعم الرصيد القانوني لتوسيع هامش الحرية الفكرية. كما يمكن القول إن خطاب الذكرى العشرين للتغيير، قد فتح نافذة جديدة آمام المعارضة سواء من خلال قرارات مضاعفة المنحة القارة المخصصة لتمويل الأحزاب أو الترفيع في المنحة المخصصة لصحفها وخصوصا تيسير النشاط بالفضاءات العمومية بالنسبة الى أحزاب المعارضة، وهي نقاط لطالما اشتكت من عدم توفرها المعارضة التونسية واعتبرتها أهم أسباب عدم تواصلها بالشكل الكافي مع المجتمع التونسي.

إن رهان الدولة الوطنية التونسية منذ فجر الاستقلال عام 1956 على الرأس مال البشري، كثروة تونس الأولى والأهم يجعل شعبها وشبابها وجميع أصناف نخبها يقاربون مشروع التغيير من منظور: هل من مزيد على صعيد القرار والممارسة، أي من منظور شيمته النهم المتواصل والطموح الذي لا تهدأ عجلته أبدا.

[email protected]