الديموقراطية مشوهة في نسختها العربية

TT

بعد إعفاء وزير وإسقاط آخر بعد تدويره، للكويتيين أن يتمتعوا بنسائم الديموقراطية، ولهم الحق أن ينتشوا باستجواب الوزراء وجرجرتهم على صفيح ملتهب من الأسئلة المحرجة والتحقيقات الاستفزازية، أو الضغط لإسقاط الوزراء قبيل الاستجواب، كما جرى أخيرا مع الوزير القدير الدكتور عبد الله المعتوق.

كما أن للكويتيين أن يفخروا بوقوف رئيس الحكومة وأحد أفراد الأسرة الحاكمة الشيخ ناصر الصباح، عبر البث المباشر للتلفزيون الرسمي، ليرد على اتهامات تسربت وانتشرت حول علاقته بشأن تجاري قبل توليه منصبه الحكومي الرفيع. هذه الصراعات والمناكفات والمشادات بين الحكومة والبرلمان المنتخب اعتبرها الكثير علامة صحية وإفرازا طبيعيا للديموقراطية، وهذا صحيح لو أنها أفرزت أيضا تنمية على كل الأصعدة، خاصة الصعيدين السياسي والاقتصادي، وهذا بالتأكيد ما لم يتحقق قياسا بدول خليجية أخرى، الإمارات مثلا، التي حققت قفزات هائلة على المستوى الاقتصادي ورفاهية شعبها، من دون وجع الرأس المزمن الذي تعاني منه الحكومة الكويتية من جراء مشاداتها مع برلمانها المشاكس، التي كبلت الكويت ومنعته من أن يتطور التطور المرجو من دولة سبقت غيرها من دول الخليج بمراحل في ميدان الحريات والديموقراطية، فهل تجربة الكويت الديموقراطية مؤشر على صعوبة نجاح الديموقراطية في نسختها العربية؟

أنا لست خصما للديموقراطية، ولا من المبررين للاستبداد، بل أظن أن من السخف أن يتصور أحد أن يظل الوزير والمسؤول أيا كانت رتبته بدون رقيب عتيد، بدعوى تمكينه من أداء مهمته، فاستغلال المنصب من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يسرق، لكن يؤسفني أن تجارب الديموقراطية العربية، ومنها التجربة الكويتية القديمة، التي تجاوز عمرها ستين عاما، مع التقدير الكامل لكل إيجابياتها وإنجازاتها، لكنها لم تحقق على أرض الواقع السياسي والاقتصادي ما حققته الديموقراطيات الحقيقية في الدول المتقدمة، ففي الدول الغربية استخدام راشد لأدوات الديموقراطية وآلياتها، بحيث لا تكون معوقا للتنمية، وفي الدول العربية الديموقراطية استخدام سيئ لهذه الآليات والأدوات، حيث نسمع في الكويت مثلا عن كثرة التشكيلات الوزارية في مدد وجيزة، وكثرة الوزراء المستجوبين والمقالين بسبب الصراع بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، ولكننا لم نسمع هذا العدد في مرات التغيير في أكثر الدول عراقة في المجال الديموقراطي، مما يعني أن خللا ما يحدث في النسخة العربية لتطبيق الديموقراطية.

الديموقراطية عضو تم استزراعه في عدد من الأجناس البشرية شرقية وغربية وحققت معهم نجاحا ملموسا بعد قرون من الاضطهاد والمعاناة وكبت الحريات، إلا الجسد العربي ما برح يتعامل مع الديموقراطية بشيء من الرعونة وسوء التدبير، كل دول الدنيا باستثناء الدول العربية، كلما تطورت ديموقراطيا تطورت أمنيا واقتصاديا وسياسيا، والعكس صحيح مع الدول العربية، فهذا لبنان الذي يعتبر الأفضل ديموقراطيا هو الأسوأ أمنيا وتنمويا، وصار بسبب ديموقراطيته مسرحا للصراعات العربية بالوكالة حتى صارت لغة التفاهم مع نوابه من خلال الإسكات بالبندقية والتفجيرات والسيارات المفخخة، وأصبحت آليات الديموقراطية فيه سببا في شل وظائف الدولة، ولايزال لبنان حائرا تائها في موضوع من يتولى رئاسة الجمهورية في مرحلتها المقبلة، وربما قاده الارتباك في هوية الرئيس المقبل إلى مزيد من الصراعات الدموية، وبسبب الديموقراطية في نسختها العربية المشوهة صار لبنان دولة هشة تنخرها الميليشيات وجيوش غير نظامية، حتى أن جيشا نظاميا متهلهلا يتحداه خمسمائة مقاتل ويصارعه لعدة أشهر في النهر البارد، فكيف بجيش حزب الله المدرب والمدجج بتقنية السلاح المهرب؟

الديموقراطية ليست بالضرورة صراعا مزمنا بين الدولة والبرلمان، وليست الديموقراطية في الاستعراض المتبختر لعضلات السلطة البرلمانية واستخدام قبضاتها في استجواب الوزراء وإسقاطهم بالضربة القاضية، فهذه وسائل لا غايات، الذي يهم الشعب أي شعب في الدنيا هو عنب التنمية والرفاهية والعيش الرغيد، وليس ناطور المناكفات السياسية والصراعات وتصفية الحسابات.