ما هو السيناريو الإسرائيلي لانتخابات الرئاسة اللبنانية؟

TT

قد يستغرب البعض كل هذا الضجيج الذي يصاحب الانتخابات الرئاسية اللبنانية، غير أنه – إذا عرفت الأسباب – ضجيجٌ مستحق وأكثر.

ففضلاً عن أنه الانتخاب الرئاسي الحقيقي الوحيد تقريباً الذي يستحقّ هذا المسمّى في الوطن العربي الكبير، فهو يشكل منعطفاً مهمّاً للتداعيات والحسابات الإقليمية ـ المعلنة والمضمرة ـ على ساحة هي رغم صغر رقعتها الجغرافية نقطة التقاطع الأخطر، والأعظم تعقيداً في عموم المنطقة العربية.

وبجانب ما يشاع من صراع «مخططات» كبرى متناقضة اليوم على حلبته المفتوحة، ينبغي العودة قليلاً إلى التاريخ.

فأول «كيان لبناني» تحت سلطة الأمير فخر الدين الثاني المعني (1572 ـ 1635) نتج عن الصراع الإقليمي العثماني السنّي والصفوي الشيعي، وكان ثمرة تخوّف السلطان العثماني (خليفة المسلمين) من إقدام شيعة بلاد الشام على قطع طريق الحج. ومن ثم أسهم بلعب دور العائق الجيوبوليتيكي الذي يمنع الكتلة الشيعية الممتدة من إيران إلى المتوسط من فصل سنيّي الأناضول والقوقاز عن سنيّي المشرق العربي وشمال إفريقيا.

وفي عهد الأمير بشير شهاب الثاني (1795 ـ 1840) صار «الكيان» إقطاعاً إدارياً يتنازع النفوذ عليه ولاة السلطنة العثمانية في الشام وعكا، ثم مسرح عمليات بين السلطنة المدعومة تكتيكياً من بريطانيا ومصر محمد علي المدعومة من فرنسا.

ثم في منتصف القرن الـ19، عشية انهيار التوازن بين السلطنة العثمانية والغرب المسيحي، نُفّس الاحتقان الديني المشرقي أول ما نُفّس في المجازر الطائفية بجبل لبنان قبل أن تمتدّ منه إلى الداخل السوري ولا سيما دمشق. وهكذا، أسّست «متصرفيّة جبل لبنان» لتصبح أول كيان سياسيّ في المشرق العربي تحت حاكم غير مسلم (ولو في ظل السلطان العثماني).

لبنان اليوم يلعب مجدّداً دوره التأزيمي ـ التصريفي الخطير.. ليس من واقع قوته، بل على العكس، بسبب ضعفه وهشاشته وانعدام مناعته الداخلية.

وأزمة حكمه الحالية، وما سبقها وما سيليها، سواء عبر الشارع المعبّأ أو القيادات المسيّسة حتى النخاع، تؤكد زيف كل شعارات السيادة والوحدة الوطنية التي رفعها ويرفعها كثيرون ـ وخاصةً من القادة المسيحيين ـ ممن زايدوا طويلاً بشعارات «التحرير» إبّان حقبة الهيمنة السورية على لبنان بين 1976 و2005.

فالمسألة أبعد من مجرد «تحرير» لبنان من هيمنة دمشق أو غيرها.. لأنها أيضاً جزء من تناهش عشائري على حصص الطوائف وأحجامها. وهو تناهش يستدعي أي تدخل خارجي كان ويستقوي به وفق المنطق اللبناني المريض «كل من تزوّج أمي صار عمّي». وهل هناك من مثال على ذلك أبلغ من تحالف «حزب الله» الشيعي الذي لا يعترف بالحدود القومية ولا يجادل في مسألة «ولاية الفقيه».. مع «التيار العوني» المسيحي المتباكي على «حقوق المسيحيين» والمتباهي بأبوته القرار الدولي 1559 وقبله «قانون محاسبة سورية» بالشراكة مع «اللوبي الليكودي» في واشنطن ونيويورك، واستظلال هذا التحالف العجيب عباءة حكم سوري يرفع شعارات العروبة والاشتراكية والعلمانية؟!

بعد هذا، أليس غريباً أن تكون إسرائيل هي الصامت الأكبر بل الوحيد وسط كل المعمعة؟ أم تُرى أن معظم المساعي الدولية، ولا سيما الفرنسية منها، تسير فعلياً على هَدي الغايات الإسرائيلية المضمرة؟

أليس واضحاً أن إسرائيل ما زالت تراهن على دور سوري تريده وترحِّب به على الساحتين اللبنانية والفلسطينية؟

لقد وفّق أحد المفكّرين السياسيين السوريين المقيمين في الخارج خلال بحث قيّم نشر أخيراً في الإشارة إلى توجّهين أساسيين في تعاطي الحكم السوري الحالي مع أزمات المنطقة، هما: توجّه براغماتيكي يبني استقرار هذا الحكم وسلامته واستمرار مصالحه على جعل أراضي «جيرانه» بؤر تفجير وقلاقل بعد «تحويله» اتجاه الأعاصير والتداعيات الإقليمية إليها بعيداً عنه. وتوجّه ثانٍ خطابي طوباوي يغلّف ممارسته البراغماتية هذه بالأهداف القومية والأخلاقية السامية.. مروّجاً النظرة الأشمل للصراع «المصيري» بين الأمة وأعدائها المتربصين بها.. والتضحيات المتفانية التي تقدمها دمشق نيابة عن الأمة وباسمها.

إسرائيل تفهم، أو يحسب كثيرون أنها ما زالت تفهم، «سقف» مطالب الحكم السوري و«فلسفة» أولوياته السياسية. غير أن ما فعلته منذ الانسحاب العسكري السوري من لبنان قبل سنتين، يؤشر إلى أنها ما زالت تعتبر أن دمشق لم تتجاوز بعد «الخطوط الحمراء» المرسومة لها، بل إن ما يفعله الحكم السوري لنسيج المجتمع السوري نفسه، وكذلك للمجتمعات العربية المحيطة به، يتوافق كليّاً مع الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى لإسرائيل في تسعير حالات الانغلاق الداخلي والعداء الطائفي والتنافر الاجتماعي بين مكوّنات هذه المجتمعات.

فبمراجعة عاجلة نجد كيف تفاقم الاستقطاب الطائفي في لبنان بعد 30 سنة من الإدارة الفعلية السورية، وكيف انزلق العراق نحو الحرب الأهلية بعد فتح أبواب «دعم المقاومة» من الشرق والغرب، وكيف تتهدّد الأراضي الفلسطينية بالانقسام والتفتت بعدما برز الخيار الأصولي «الحماسي» و«الجهادي» ـ المُحتضَن سورياً ـ بديلاً عن التنظيمات القومية والعلمانية التي يفترض أنها أقرب عقائدياً إلى فكر حزب البعث العربي الاشتراكي وعقيدته.

ولكن الأخطر، كما أسمع، وكما ينشر في بعض وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، ما يحدث ويمكن أن يحدث في سورية ذاتها.

أحد الأصدقاء وهو من مدينة كبيرة يشكّل المسيحيون نسبة عالية من سكانها أبلغني أن عدداً من معارفه من المسلمين ما عادوا يصفون جيرانهم المسيحيين إلا بـ«الكفّار»(!).

كما أن ضيق الحكم بكتابات أشخاص مثل ميشيل كيلو وزملاء له من موقّعي «إعلان دمشق ـ بيروت».. مقابل محاولات ترويج بعض الرسميين والأبواق الغبيّة صورة الحكم السوري على أنه «ضمان حماية للمسيحيين» في المنطقة.. أمور تثير القلق، لأنها ستدخل الجميع في حلقة مفرغة خطيرة من الفعل وردات الفعل، وبالذات في عصر الأصوليات، بحيث لن يعود بالإمكان السيطرة على تداعياتها.

إزاء هذه الخلفية مطلوب انتخاب رئيس جديد للبنان!.. أي لبنان؟

كيف يمكن انتخاب رئيس لدولة ممنوعة من أن تكون كذلك.. بمباركة الأقربين والأبعدين وتواطؤ جزء لا بأس به من أبنائها «الممانعين»؟!