الصمت حكمة

TT

قبل مدة وصلني طرد بالبريد، ملفوف بورق جميل وعناية كبيرة، أخذت أقلب الطرد بين يدي على أمل أن أعرف من هو المرسل لي، لم أجد اسماً، ولكنني قرأت اسم المتجر المرسل منه، وهو متجر معروف لبيع الأواني المنزلية.

وفتحت الطرد، مقتنعاً أنني سوف أجد ورقة أو كرتاً مكتوباً فيها الإهداء واسم المهدي، غير أنني لم أجد أي كلمة أو حرف يدل عليه.

كانت الهدية عبارة عن (خلاط عصير فواكه)، الخلاط يبدو لي أنه ثمين، وأنيق وفعال، ويشتغل اتوماتيكياً على كهرباء (110/220) فولت.

شكرت بيني وبين نفسي ذلك المهدي (الغبي والمجهول)، ووضعت الخلاط على رف المطبخ، وطلبت من العاملة المنزلية أن تحضر لي بعض الفواكه المتوفرة، ووضعتها في الخلاط وصنعت منها (كوكتيلاً) منعشاً، شربته (بالهنا والشفا).

وأصبحت في صباح كل يوم اشرب عصير البرتقال الطازج ببركات ذلك الخلاط، الذي نزل عليّ من السماء من دون أي مقابل.

ومع الوقت نسيت الموضوع، غير أنني تفاجأت بعد شهرين برسالة تأتيني من المتجر، تخبرني، أنني تأخرت في سداد ثمن الخلاط وقدره (...............) من النقود.

فرددت عليهم بكل أدب إنني لم اشتر ذلك الخلاط منكم، بل إن قدمي لم يسبق لها أن عتبت باب متجركم.. ولم يأتني منهم رد، واعتقدت أنهم اقتنعوا برسالتي.

ولكن وبعد أربعة أشهر، وإذا بخطاب شديد اللهجة يصلني منهم يطالبونني فيه بدفع ثمن الخلاط، وإلاّ قدموا شكوى رسمية ضدي.

فرددت عليهم قائلاً: إنني لن أدفع، وإذا أردتم خلاطكم فابعثوا بمندوبكم ليأخذه، وهو الآن أمامي ممتلئ بعصير البرتقال، ولا مانع عندي من أن يشرب مندوبكم ذلك العصير، قبل أن يأخذ الخلاط.

والآن مر على خطابي ذاك أكثر من سنة، ولم يصلني منهم أي رد.. ولا ادري إلى الآن كيف وصلني ذلك الطرد على عنواني، الذي لا يعرفه غير القلائل، والغريب أن اسمي كان مكتوباً (رباعياً) بالكامل، ولا أظن أن هناك على وجه الأرض من يحمل نفس اسمي الرباعي ـ على وزن سيارات الدفع الرباعي ـ.

وقد دعوت أحد المشايخ إلى منزلي من أجل أن استفتيه في موضوع الخلاط، وهل كل ما كنت اشربه (وأبلبعه) من العصيرات طوال أكثر من سنة هو حلال أم حرام؟!

وبعد أن سمع سؤالي، رشف من كأس عصير (المنجا) المقدم له عدة رشفات كبيرة قال: ليس لك حق باستعمال ذلك الخلاط، طالما انك لم تدفع ثمنه ولم تعرف مرسله.. فقلت له: هل معنى ذلك أن كل ما دخل بطني منه مشكوك في أنه حلال؟! هز رأسه علامة أن هذه هو الواقع، وأردف قائلاً: والله اعلم، ثم تناول كأس العصير وافرغ بقيته في جوفه دفعة واحدة، وبعد أن تجشأ وحمد الله كثيراً.

قلت له: إن ما شربته الآن إنما هو عصير بذلك الخلاط.

فقال: ليس على الجاهل حرج، ولو أنني كنت اعلم لما شربت ذلك العصير.

كدت أقول له: أخرجه من بطنك لو سمحت، ولكنني خفت أن يفعل، فصمت.

[email protected]