رسالة إنسانية في قمة الأوبك

TT

وليد خدوري، باحث عراقي من الرعيل الأول من الاقتصاديين العرب الذين تخصصوا في شؤون النفط. دعته المملكة العربية السعودية إلى قمة الأوبك الثالثة، التي انعقدت في الرياض يومي السبت والأحد الماضيين، حيث كرمه الملك عبد الله بن عبد العزيز على بحوثه القيمة في مجال النفط. وبالفعل يستحق وليد خدوري التكريم، فالمهتمون والمعنيون في هذا المجال يدركون جيدا قيمة الرجل العلمية، حيث يعتبر من أهم الباحثين والمحللين الاقتصاديين في المنطقة. وكذلك يقدرون عاليا إسهاماته في اقتصاديات النفط ومشاركاته الفعالة في المؤتمرات والفعاليات الاقتصادية العربية والعالمية. جاء إلى القمة الثالثة رغم مرضه، فقد قيل لي إنه أصيب بعارض صحي خطير وما زال يتماثل للشفاء منه، وكان ذلك واضحا في حركته، حيث صحبته زوجته طيلة أيام المؤتمر.

ورغم أنني تشرفت بحضور المؤتمر، لكني لا أدعي أنني كوليد خدوري في القدرة على سبر أغوار شؤون النفط. ولكن الحقيقة أن موقفا قد حدث في المؤتمر هو الذي دفعني لأن أكتب عنه، فمن حق القارئ العربي أن يعرفه. كما أسلفت، كان من ضمن أعمال المؤتمر أن يكرم الملك عبد الله بن عبد العزيز، المميزين من الباحثين والمهتمين والعاملين في مجال النفط. وعندما جاء دور السيد وليد خدوري في الذهاب إلى المنصة للسلام على الملك، حاول الرجل بصعوبة المشي للوصول إلى المنصة، ولما رأى الملك أن الرجل يتحرك ببطء نزل من على المنصة وقابل خدوري في منتصف الطريق. لحظة تخلى فيها الملك عن البروتوكولات الملكية أمام لحظة إنسانية مرهفة، لم يرد فيها للرجل المريض أن يتعثر فذهب إليه بنفسه وصافحه، عندها ضجت القاعة بمختلف ضيوفها وزوارها والمشاركين بالتصفيق. لقد أربك الملك عبد الله الواقفين حوله المعنيين بشؤون البروتوكول، فلم يعرفوا كيف يتصرفون أمام عفويته. باعتقادي أن موقف الملك عبد الله هو رسالة إنسانية أغنت كثيرا وأضافت كثيرا إلى الرسائل التي هدفت جلسات وورشات العمل التي سبقت المؤتمر إلى توصيلها.

وعندما كنت على مائدة العشاء إلى جوار بعض السعوديين، فسألتهم عن ملاحظاتهم عما رأوه، قالوا استوقفنا الحدث لكننا لم نستغرب. الملك عبد الله إنسان عفوي على طبيعته، ما تراه أمامك هو الملك. وما رأيته أمامي كان إنسانا ملكا.

«الملك الإنسان»، هي اللافتة التي تراها مكتوبة على جدران الرياض وعلى أعمدة إنارتها. ولم تكن مبالغة، فقد شهدتها قمة الأوبك الثالثة.

وفي القمة، أعلن الملك عن دعمه للبحوث والدراسات في شؤون الطاقة والبيئة، بمبلغ يصل إلى ثلاثمائة مليون دولار. وبدا هذا الإعلان منفصلا عن كلمته التي تحدث في مجملها عن سياسات أوبك النفطية. ولكن لحظة تكريم الباحث وليد الخدوري كانت تجسيدا حيا للعلاقة بين تكريم العلم والعلماء عند عاهل المملكة العربية السعودية. ولعل جامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز خير دليل على ذلك.

انصب تركيز جلسات وورشات العمل للقمة على علاقة البترول بالبيئة، وعلى أن يكون استخدام العالم للطاقة استخداما متلائما مع البيئة. جاء ذلك في تصريحات الأمير عبد العزيز بن سلمان، الرجل الثاني في وزارة النفط السعودية والرجل الأول الذي وقف خلف تنظيم هذا المؤتمر الناجح، بأن رسالة أوبك للعالم هي أنها معنية ببيئة نظيفة. أو كما قالها الأمير بالإنجليزية: we care .

وبالفعل، كان كل جهد جلسات المؤتمر ومئات الأوراق التي قدمت قبله، وربما بيان القمة الختامي الذي قضى وزراء الخارجية والنفط في دول المنظمة كثيرا من الوقت لإعداده، كان ذلك كله منصبا على إيصال تلك الرسالة «نحن نهتم».

رغم كل ما سبق، إلا أن هناك مشاكل جوهرية داخل القمة وخارجها على الباحثين في شؤون الطاقة وضعها تحت أنظارهم. كان هناك جو واضح بأن ثمة مواجهة تلوح في الأفق بين الشركات الدولية الكبرى، مثل شيفرون واكسون موبيل وشل، وبين شركات النفط الوطنية مثل ارامكو السعودية وشركة النفط الكويتية والإيرانية وغيرها. فبينما تحافظ شركات النفط الوطنية على مكاسبها، تحاول الشركات العالمية تكسير الحدود وتحويل النفط إلى سلعة يتحكم بها السوق فقط. نغمة المواجهة هذه هي التي جاءت بصورة مبالغة في خطاب الرئيس الفنزويلى هوغو شافيز الناري، حيث أن فنزويلا كانت هي الدولة المنظمة للمؤتمر السابق الذي عقد في كاراكاس عام 2000. تحدث شافيز بكاريزمية عن الاستعمار وكيف أن منظمة «الأوبك» بدأت عهدها كمنظمة ثورية. وخيل إلي وأنا أسمعه وكأنني أستمع إلى خطاب زعيم زمن الستينات.

لم تكن المواجهة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة الغربية هي الشرخ الوحيد في العلاقات الدولية للنفط، بل ثمة انقسام بدا واضحا داخل أوبك نفسها. هناك خط الاعتدال الذي تتبناه المملكة، أكبر منتج للنفط داخل أوبك (تسعة ملايين برميل نفط يوميا)، والخط الراديكالي الذي تتزعمه إيران وفنزويلا.

المواجهة بين الشمال والجنوب والمواجهة داخل الجنوب نفسه في بيئة عالمية متوترة سياسيا، قد تدفع أسعار النفط إلى مستويات لا قبل للاقتصاد العالمي بها. إذ لم يعد النفط اليوم سلعة اقتصادية، فالنفط أصبح سلعة سياسية بامتياز. ورغم أن الدول النفطية تستبشر خيرا بزيادة الأسعار، إلا أنها على المدى البعيد قد تكون هي الخاسر الأكبر. فالمراهنة على أن النفط هو المادة التي تحرك العالم وبالتالي رفع أسعاره من دون حساب قد يخرج هذه الدول من الأسواق، خاصة أن الدول الكبرى جارية في البحث عن مصادر الطاقة البديلة.

جيوبوليتيك النفط اليوم بدأ يشبه الدول المنتجة والدول المستهلكة. فكما تصنف بعض الدول على أنها دول مارقة والبعض الآخر على أنها معتدلة، فقد يصنف النفط على أن هناك نفطا مارقا ونفطا معتدلا، وهذا ما اسميته بالانجليزية في محاضرة في شنغهاي (Regular vs. Rogueular Oil)

تلك التحديات، بما فيها علاقة النفط بالدولار، تمثل أسئلة أساسية حاولت القمة الإجابة على بعضها. كما بعثت برسائل مهمة في ما يخص علاقة الطاقة بالبيئة. وتبقى الرسالة الإنسانية الأجمل لقمة الأوبك في الرياض، هي تلك التي جسدها الملك عبد الله بن عبد العزيز بتنحيته كل المراسم والبروتوكولات جانبا ليصافح باحثا كان قادما في منتصف الطريق إليه. وليت كل الزعماء يقابلون شعوبهم عند منتصف الطريق ايضا.