المنظومة التربوية الجزائرية.. إلى أين؟

TT

عبارتان: الأولى تمجد الوجود الفرنسي في الجزائر في كتاب التاريخ للسنة الخامسة ابتدائي، والثانية تسيء إلى المجاهدين في كتاب التاريخ للسنة الرابعة متوسط، بعد مرور أسبوع فقط على فضيحة حذف المقطع الثالث من النشيد الوطني كانت كفيلة بتهويل الرأي العام الجزائري، وجعل الساحتين الإعلامية والشعبية تخرجان من جو اللامبالاة الذي كانت تعيشان فيه منذ بدء الحملة الانتخابية في الجزائر إلى ما يشبه البركان.

والحقيقة أنها عبارات غير عادية وغير هيّنة لأنها تتعلق بحفظ ذاكرة الأمة وتاريخها. ما أثار الاشمئزاز والسخط فيما ورد في هذه العبارات التي تبدو وكأنها ترجمة حرفية لما يرّدُ في المناهج الفرنسية فنقرأ مثلا «استفادت فرنسا في بداية القرن التاسع عشر من الثورة الصناعية في تطوير أسلحتها، وشكلت بذلك قوة عسكرية مكّنتها من تحرير الجزائر» وكأن فرنسا دخلت الجزائر سنة 1830 بغرض إنقاذها من الأتراك.. ! فهل يصّح أن نعُّلم أطفالنا مثل هذه المغالطات الخطيرة..؟ واستعمال عبارة «المتطرفين الثوريين» على مجاهدي الثورة الابرار تماما كما كان يسميهم المستعمر القديم.. !

سخط أولياء التلاميذ وغضبهم شرعي ومفهوم خاصة أنهم يكتشفون أن الأمر لا يقتصر على خطأ مطبعي فحسب، بل على إهمال كاد لولا تنّبه المّربين الشرفاء ان يؤدي إلى زرع أفكار خاطئة بل وخطيرة في أذهان فلذات أكبادنا ومستقبل أوطاننا..؟ هذه الأخطاء أثارت أيضا جدلا سياسيا حّادا، صعدّ من لهجته أوساط المعربّين الذين ندّدوا بعودة «حزب فرنسا» ويقصدون بهم أنصار تطبيع العلاقات مع فرنسا، الذين يحاولون على رأيهم إرضاء هذه الأخيرة وشراء مودتها بتشويه التاريخ وطمس ذاكرة المجاهدين. لكن من يْعرف الجزائر وتاريخ علاقاتها مع العدو الحميم يدرك أن المنعطف لا يمكن أن يكون بدرجة 360 بل عليه أن يمر بمراحل تمهيدية قد تأخذ وقتا طويلاً، فالقضية تتعلق بفقرات مؤلمة من التاريخ لا زالت عالقة إلى الآن في الذاكرة المشتركة للشعبين يصعب مسحها بسهولة مهما كانت أهمية الاعتبارات الاقتصادية.

وأنا شخصيا لا أوافق هذه النظرة الحزبية الضّيقة التي يتزامن ظهورها دائما وبغرابة شديدة مع مناسبات الاستحقاقات وهو ما يبعث على التساؤل ما إذا كان هناك توظيف متّعمد لهذه الأحداث؟ والقضية في رأيي ليست سوى انعكاس لحجم الحساسيات والصراعات السياسية والثقافية التي يبقى قطاع التربية والتعليم رهينتها منذ عقود. فقبل قضية المناهج المُشّوهة للتاريخ كانت هناك قضية مطالبة البربريين بإلزامية تعليم اللّغة الأمازيغية في المدارس، ثم تنديد الإسلاميين بإلغاء تخصُصْ الشريعة في امتحان البكالوريا واتهامهم النظام السياسي آنذاك برضوخه للأوامر الأمريكية التي تدعو الدول العربية ومن بينها الجزائر إلى إبعاد تدريس الإسلام من المدارس. ثم حملة الفرنكوفونيين من أجل الدفاع عن «غنيمة الحرب» التي يروْنها في وجود اللغة الفرنسية بالجزائر حتى أُعيد تدريسها ابتداء من السنة الثانية ابتدائي، بعد أن كان الأطفال ينتظرون السنة الرابعة لتعلمها. وكلها إشكاليات تثيرها مجموعات للدفاع عن توجه ثقافي وسياسي معين بينما تبقى المدرسة الجزائرية مرآة تعكس واقع أزمة الهوية وحجم الانشقاقات التي تخترق المجتمع.

وقد بقي قطاع التربية والتعليم طويلا «حقل تجارب» لوزراء يأتون بقرارات، يلغيها بعدهم آخرون، إلى أن قررت الجزائر اجراء إصلاح شامل وكليّ سنة 2002 وهي الخطوة التي كانت مطلوبة بل وضرورية لمواكبة الحداثة والتطور الاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ العشرية الأخيرة.

ورغم ما قيل ويقال إلا أن المنظومة التربوية الجزائرية نجحت في تحقيق مكاسب عظيمة أهمها نجاحها في بلوغ أهدافها الكمّية التي تتمثل في الوصول لنسبة تعليم عالية في المراحل الابتدائية والمتوسطة تفوق الـ95% وهي من أعلى المعدلات في المنطقة كلها، إلا أنها بقيت بعيدة عن توفير النوعية والفاعلية المطلوبة لتكوين أجيال من المتخرجين على مستوى تنافسي.

فقد ورد في إحصائيات منظمة اليونسكو أن من بين 100 طفل جزائري يدخلون مرحلة التعليم الابتدائي، فإن 11 فقط ينتهي بهم المطاف إلى مقاعد الجامعة. ويرجع التقرير أسباب هذه الوضعية إلى عدة مشاكل يتخبط فيها القطاع منذ سنوات وأهمها ضعف فاعلية المناهج الدراسية المستعملة، قِدم محتوى الكتب الدراسية وعدم تماشيها مع ما يعيشه البلد من تطورات وضعف مستوى التأطير والتدريب عند معلمي المستوى الابتدائي، حيث ان 85% من معلمي الابتدائي لا يحملون شهادة البكالوريا. وزارة التربية التي بذلت مجهودات لإصلاح هذه الوضعية، اصطدمت بعدة أزمات وآخرها تلك التي فجرتها فضيحة هذه الأخطاء المُشّوهة للتاريخ، ولا تكاد تمر أزمة، إلا وتذكرنا أن هذا المجال نظراً لأهميته يبقى في قلب الصراعات السياسية وتبقى معه المدرسة الجزائرية حبيسة لعبة شّد الحبل بين مختلف التيارات السياسية والثقافية.

[email protected]