شيخ التيسير في زمن التعسير!

TT

تخيل لو أن مجموعة من علماء الأزهر أو عددا من أعضاء هيئة كبار العلماء في السعودية جمعتهم مناسبة أخوية فتقاذفوا بينهم بقشور البطيخ وأصواتهم تتعالى بالضحك والتعليقات، لا أتصور أن هذا سيكون مقبولا لدى بعض العامة والخاصة، مع أنه ثبت في الصحيح أن مجموعة الصحابة كانوا يتبادحون (أي يتقاذفون) بقشور البطيخ، وغير ذلك.

تذكرت هذه الفرضيات والسيناريوهات، وأنا أقرأ كتيبا لطيفا عن عالم اشتهر بتسامحه اللافت وتواضعه الجم وتلطفه مع العامة والخاصة وعمق إدراكه وتفوق وعيه في وقت لم يكن فيه من السهل أن يتبسط من الوجهاء رجل مثل تبسطه ناهيك من أن يكون عالما معتبرا، خاصة أن زمنه شهد تشدداً وصل لدرجة الجدل حول حرمة جهاز الراديو ووصف مقتنيه بالديُّوث، وأن جهاز الاتصال اللاسلكي حرام لأنه يذبح عنده تيس مرة في السنة بأمر من الجني الذي يدير «البرقية»، بل وفي الوقت الذي طال فيه الجدل حول القول بحرمة استخدام الميكرفون في المساجد، كانت منطقة الوسط السعودي في تلك الأيام محسوبة على القرن العشرين لكنها تعيش بنمط القبائل العربية في عصر صدر الإسلام.

هذا الشيخ العلامة هو ذاته الذي أراد ذات يوم أن يمازح زوجته وأخواته بادعاء زواجه بأخرى سماها أم إبراهيم، فكان يغيظ بها زوجته ومَنْ يتعاطف معها، فقام ذات يوم بوضع كومة من الوسائد حتى بدت على هيئة إنسان ثم كساها بعباءة امرأة ثم نادى زوجته وأخواته ليتناولن معه الشاي، وقال لهن إن أم إبراهيم هي التي وجهت لهن الدعوة، فقامت زوجته التي تعرف أنه يمازحها فانهالت على الوسائد ضربا وهو يضحك ويحاول ان يدفعها عن أم إبراهيم المزعومة!!

في هذه الأجواء التي كانت تعم وسط السعودية المتوقدة بالحماسة والغيرة على الدين والتشدد في عدم توسيع منطقة المباح وندرة انفتاحها على العالم الخارجي كان هذا الشيخ العلامة يلتقط في القصيم علبة دخان سقطت من عامل ليناولها له، فامتقع وجه العامل من هيبة الشيخ، إلا أن المسكين تمالك نفسه وظن أن الشيخ لم يعلم عن محتوى العلبة، فاستدرك وقال بل أعرف إن فيها دخانا، وإنه لو أتلفها بدعوى حرمتها لاقتطع ثمنها هذا العامل الفقير من قوت عياله ليشتري علبة أخرى فتصبح أسرته المسكينة المتضرِّرَ الأكبَرَ.

هذه غيض من فيض من قصص هذا العالم العابد الزاهد الذي تكاملت شخصيته وازدانت بالتسامح والرفق بالعصاة والمخالفين والتبسط اللافت مع عامة الناس قبل خاصتهم حتى صار علامة فارقة في زمن أصبحت فيه بعض المباحات في قائمة المنكرات، وبعض المكروهات في قائمة الموبقات.

إن ظاهرة تبسط هذا العالم الجهبذ في تعامله مع الناس جعل من قصصه مادة لتعجب البعض من تواضعه ودماثة خلقه، وربما عند البعض الآخر مادة لنقد أسلوب الشيخ بدعوى أنه نزل للعامة نزولا لا يليق بالعالم، وهذا في ظني خطأ وتحرز ليس في مكانه، فالمرويات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته والسلف الصالح في التبسط للعامة ومؤانستهم والمزاح معهم، كما أوردت في صدر المقالة، أكثرُ من أن يحصرها كتاب ناهيك من مقالة قصيرة.

هذه الفجوة والجفوة بين العلماء والعامة لا نعرفها إلا في الأزمان المتأخرة، ولذا نحن بحاجة إلى استنساخ نموذج لعلامة نجد وشيخ التسامح ورمز التيسير، وإن شئتم مزيدا من روائعه فاقرأوا كتاب «مواقف اجتماعية من حياة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي» لابنه محمد ومساعد السعدي.

[email protected]