الزهاوي في ظرفه

TT

نحن نعرف جميل صدقي الزهاوي كشاعر ونعرفه كفيلسوف وعالم. ولكن قلما يعرفه احد كظريف صاحب نكتة. دعاه يوما نوري السعيد للالتقاء به. فسأله: وين نلتقي؟ قال له رئيس الوزراء: في قهوة امين. التقيا هناك. رئيس الحكومة والشاعر الفيلسوف. ليس فيها من متاع الدنيا غير بضع مصطبات وكراس قديمة وفونوغراف أبو الزمبرك. ومع ذلك، أعجب الزهاوي بها فاتخذها مقاما له سرعان ما سميت باسمه. وسرعان ما تحولت الى ملتقى للأدباء. كان بينهم الرصافي الذي انطلق في إنشاد قصيدة طويلة أخذ الزهاوي يتضايق منها ومن صاحبها. جلس يتربص لفكرة يعمل له فيها مقلبا . حتى ظهر صبي يبيع الفستق. فقاطع الزهاوي زميله متوجها الى البياع «يا ولد عندك قميص شبابي على مقاسي؟». استغرق الحاضرون بالضحك. وضاعت القصيدة على الرصافي فخرج غاضبا. وعندئذ تربع الزهاوي في جلسته وقد نصب من نفسه أميرا على المقهى.

ذهب الرصافي، وإذا بمحله يأخذه محمد مهدي الجواهري. انطلق هذا يتلو شيئا من شعره هو الآخر حتى قاطعه الفيلسوف «افندم تتراهن؟»، استغرب الجواهري الشاب من هذا السؤال. أعاد الكرة «نتراهن على أي شيء استاذ؟»، على ان اقطع نفسي وأنت تقطع نفسك، وخلي نشوف منو يخلص نفسه بالأول!

كانت لعبة مما يلهو به الأطفال، ولكن الجواهري لم يشأ ان يعترض على سيده وهو في السبعين. فمسك نفسه. وفعل مثله الزهاوي. بعد برهة من الوقت استسلم الجواهري «يا استاذنا كفاية!»، فكسب الزهاوي الرهان وحق على الجواهري ان يدفع عنه أجرة المقهى.

يقول المثل الشائع « ديكين على مزبلة واحدة ما يعيشون». كان الأفضل لصاحب المثل أن يقول: شاعران في مقهى واحد لا يعيشان.

بيد أن الزهاوي لم يكن بخيلا في الواقع، أو حريصا على أجرة المقهى. بل كان المعتاد له عندما يهم بالانصراف أن ينادي على الخادم ويدفع عن الجالسين ممن يحبهم ويستثني من لا يحبهم أو من أغضبوه.

هكذا كان مقهى الزهاوي، واحة من واحات الفكر ارتبط بأسماء مشاهير تلك الحقبة. انضم اليهم يوما عبد القادر المميز صاحب جريدة أبو حمد. فاستقبله الزهاوي بهذين البيتين:

قد جاءنا أبو حمـد

يمشـي كمشـية الاسـد

قد طابت القهوة لي

صب يا ولد! صب يا ولد!

وهناك كان ينفث أفكاره الفلسفية في شتى العلوم، الداروينية وأصل الإنسان، ونحوهما. فيما كان يوما محلقا بأفكاره هذه، اقتحم المقهى رجل يتطاير الغضب من عينيه، وتوجه فورا اليه. كلب! كافر! تنكر خلقة الخالق؟ تقول اصل الإنسان قرد! آني أبويه قرد؟!

مسك به الزهاوي وقال: لا، ابني. أنا ما قلت أبوك أنت كان قرد. حاشا. أنا قلت، ثم كشف الشاعر عن رأسه الأصلع ووجهه المتغضن وأسنانه المنخورة، ومسك ذقنه بيده وقال: أنا قلت، آني ابويه كان قرد!