دمشق: أيهما أهم العلاقة مع إيران.. أم استعادة الجولان ؟

TT

ليس وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك وحده الذي يرى أن هناك إمكانية لاستئناف المفاوضات المتوقفة مع سوريا منذ نحو ستة أعوام فهناك مسؤول إسرائيلي سابق، له باع طويل في هذه الأمور، هو المدير الأسبق لجهاز «الموساد» إفرايم هاليفي يشاركه هذا الرأي، وهناك آخرون حتى في حكومة أيهود أولميرت يتفقون معهما على أن هناك إمكانية لإعادة تسيير القاطرة السلمية على مسار هضبة الجولان السورية المحتلة.

يرى باراك ومعه هاليفي وآخرون أن الحل على المسار السوري أسهل كثيراً منه على المسار الفلسطيني، وهذا صحيحٌ ولا نقاش فيه، وهو يرى أيضاً أن في سوريا نظاماً واحداً موحداً كلمته واحدة عوَّد الإسرائيليين على أنه إذا التزم بأمرٍ فإنه يحترم التزامه وأنه ينفذ ما يتعهد به ويبدو أن في ذهن وزير الدفاع الإسرائيلي وهو يقول هذا الكلام حقيقة أن الأمن بقي مستتباً على خطوط جبهة الجولان لأكثر من ثلاثين عاماً وأنه لم تعكِّر صفوه حتى ولا حادثة واحدة.

وحقيقة أن سوريا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وفي العهد الذي سبقه، عهد نور الدين الأتاسي وصلاح جديد، وفي هذا العهد الحالي استطاعت أن تُبقي خطوط المواجهة مع إسرائيل في هضبة الجولان المحتلة هادئة واستطاعت أن تمارس الكفاح المسلح و«حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد» مرة عبر الجبهة الأردنية ومرات عبر جبهة الجنوب اللبناني وأيضاً عبر جبهة بيروت نفسها.

والمعروف أن باراك عندما كان رئيساً للوزراء كان قد استأنف مفاوضات العملية السلمية مع سوريا سرّاً وعلانية وكادت أن تصل تلك المفاوضات إلى إنجازات حقيقية لولا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق وزير الدفاع الحالي اصطدم بعقبات داخلية كثيرة من داخل حزبه، حزب العمل، ومن خارجه جعلته مكبلاً وغير قادر على الاستجابة للمتطلبات السورية المُحقَّة ومن بينها وأهمها «وديعة رابين» الشهيرة التي تقول دمشق أن إسحق رابين كان قد أعطاها لدمشق بضمانة أميركية.

إن السؤال الذي يطرحه كثيرون في هذا المجال حتى على الجانب الإسرائيلي هو: هل أن باراك جادٌّ يا ترى في هذا الذي يطرحه بالنسبة للانتقال بالمفاوضات والحلول المنشودة من المسار الفلسطيني، المعقد والصعب، إلى المسار السوري الأكثر سهولة والأقل تعقيداً، أم أن كل ما في الأمر أن هذه مجرد لعبة يتوزع أدوارها أيهود أولميرت ووزير دفاعه هدفها إخافة الفلسطينيين وممارسة المزيد من الضغط عليهم ليكونوا أكثر استجابة للشروط والمتطلبات الإسرائيلية..؟! وهنا وفي إطار البحث عن إجابة منطقية على هذا السؤال فإنه لا بد من التذكير بأن الإسرائيليين كانوا قد لعبوا لعبة «تنافس المسارات» هذه في بداية عملية السلام بعد مؤتمر مدريد الشهير، في عام 1991 مباشرة، وذلك بهدف زرع الشكوك المتبادلة بين الدول العربية المعنية التي كان بعضها يرى أنه من الأفضل للعرب وللفلسطينيين أن يكون الحل المنشود عربياً وأن تكون المفاوضات عربية ـ إسرائيلية حتى لا يستفرد الإسرائيليون بالمفاوضين العرب مفاوضاً بعد الآخر وحتى تكون الحلول على كل الجبهات صفقة واحدة وبمواعيد زمنية لا بأس في أن تكون مختلفة بالنسبة للتنفيذ.

كان الموقف السوري في ذلك الحين ضد الصفقة الشاملة وهذا عبر عنه فاروق الشرع، الذي كان يومها وزيراً للخارجية، في أكثر من اجتماع من اجتماعات وزراء خارجية دول المواجهة التي شارك فيه وزراء خارجية بعض الدول العربية بحيث نُقِلَ عنه أنه قال: «كل شاة معلقة من عرقوبها وكلٌّ يقلع شوكه بنفسه»، ويبدو أن القيادة السورية قد اتخذت هذا الموقف في ذلك الحين إما لتقديرها أنه ليس في مصلحتها ربط مسارها «الأسهل» بالمسار الفلسطيني «الأصعب والأكثر تعقيداً» أو لأنها حصلت على تطمينات إسرائيلية وفقاً للعبة «تنافس المسارات» بأن الأولوية ستكون لهضبة الجولان!!

وهكذا فقد حصل ما حصل وجرى ما جرى وبالنتيجة فإن دمشق التي يبدو أنها قد نسيت رابين وتنازلت عن وديعته قد أصبحت مستعدة لاستئناف المفاوضات مع الإسرائيليين بدون شروط مسبقة وهي أعلنت هذا أكثر من مرة وبقيت تردده حتى الآن، والسبب أنها تخشى من أن يحدث على مسار القضية الفلسطينية ما حدث على المسار الأردني حيث «وادي عربة» في عام 1994 وما حدث على المسار المصري حيث اتفاقيات كامب ديفيد الشهيرة ويبقى مسار الجولان إلى النهاية فيصبح سهلاً على إسرائيل الاستفراد بهذا المسار.

إن هذه المخاوف بقيت تراود دمشق على مدى أكثر من ثلاثة عشر عاماً ولذلك فإنها، كما هو واضح، قد استقبلت توجهات باراك وتصريحاته، وحتى وإن هي لم تعلن هذا رسمياً، بفرحة عارمة ورغبة جامحة وهنا فإن المؤكد أنها أي دمشق وهي تشعر بأن هذه التصريحات والتوجهات تشكل فرصة سانحة لطرد أشباح «الاستفراد» التي تحيط بها من كل جانب تأخذ بالاعتبار نقطتين هامتين هما:

أولاً: أن تكون تلويحات باراك هذه مجرد مناورة هدفها الحقيقي مضاعفة الضغط على الفلسطينيين لإجبارهم على تقديم تنازلات عشية مؤتمر «أنابوليس» الذي بات في حكم المؤكد أنه سينعقد في السادس والعشرين من هذا الشهر وأن تكون هذه المناورة بعلم ومعرفة وموافقة الأميركيين الذين يرفضون الآن «حلحلة» حقيقية مع سوريا وحتى وإن كانت هذه الحلحلة هي رغبة الحكومة الإسرائيلية.

ثانياً: أنها، أي سوريا التي لديها تطلعات إقليمية قديمة وجديدة، لا يمكن أن توافق على الشروط الإسرائيلية التي تعتبرها تعجيزية والتي في مقدمتها أن يكون الانسحاب من الجولان ثمناً لفك العلاقات مع إيران، فهذا تعتبره القيادة السورية مقتلاً استراتيجياً وبخاصة أن لديها قناعة راسخة بأنه لا يمكن الوثوق لا بالوعود الإسرائيلية ولا بالتطمينات الأميركية غير المتوفرة بعد و«أن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة». إنه غير وارد على الإطلاق أن تستجيب القيادة السورية للشروط الإسرائيلية التي تطالبها بالتخلي المسبق عن تطلعات سوريا في لبنان وأن تطرد منظمات الرفض الفلسطيني من دمشق وفي مقدمتها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وأن توقف تدخلاتها العسكرية والأمنية في العراق، وفوق كل هذا أن تفك علاقاتها «الاستراتيجية» مع إيران.. إن هذا بالنسبة لسوريا غير وارد حتى وإن كان الثمن هضبة الجولان المحتلة.

لا يمكن أن تبادر سوريا إلى تحطيم شبكة أمانها وتتخلى عن تحالفها مع إيران، الذي بقي صامداً لأكثر من ربع قرن وحتى في ذروة حرب الخليج الأولى التي كان كل الاصطفاف العربي خلالها مع العراق، لقاء تلويحات وتصريحات باراك غير المضمونة والتي لا تستند إلى أي تشجيع أميركي ولو في الحدود الدنيا.