إيان سميث.. وتعلق الاستقلال ما بين الأبيض والأسود

TT

وقائع الحياة السياسية لايان سميث (1919- 2007) رئيس وزراء جنوب روديسيا السابق الذي مات الثلاثاء 20 نوفمبر، بمثابة دراسة لعلاقة ثلاثية الابعاد، بين القوة الاستعمارية، وأقلية بيضاء بادرت برفع لواء الاستقلال، وأغلبية سوداء تمزقت بين دعوة العنف الثوري وبين دعوة التعاون مع البيض ضد الاستعمار. العلاقة تجاوزت مجرد نظرة اقلية بيضاء للسود بعنصرية كجنس متدن، لتشتمل اعتبارات قومية كنسبة الضرائب التي تدفعها كل مجموعة ومساهمتها فى الانتاج والخدمة في الجيش. كما ان المنظمات السوداء لم تمثل كافة المحرومين من الحقوق المدنية، فكثيرها غير ديموقراطي، غير منتخب وإنما نصب نفسه بقوة السلاح، او بالزعامة القبلية. في روديسيا مثلا ادى افتقار السود تاريخيا لحرية الخيار السياسي الى عجزهم عن الفكاك من قبضة المنظمات الثورية، وعندما اتيحت فرصة واحدة 1979 بعيدا عن تهديد الراديكاليين اثبتوا قدرتهم على تحمل المسؤولية.

فشلت محادثات سميث عام 1976 مع وزير الخارجية الامريكي هنري كيسنجر لتسليم السلطة للاغلبية السوداء بسبب استجابة الامريكيين لضغوط رؤساء دول المواجهة السود (زامبيا وموزمبيق) فسعى سميث 1977 الى نشر الديموقراطية الليبرالبية الغربية بشعار صوت واحد للمواطن الواحد one man one vote .

لكن العالم شك في نواياه عندما ظل حق السود في التصويت مقتصرا على اصحاب الاملاك ودافعي ضريبة دخل اعلى من 24% اي من المهنيين (وخصص لهم 16 مقعدا برلمانيا فقط مقابل 50 للبيض) مما حرم الاغلبية من التصويت. اتهم العالم سميث بالعنصرية، وهو ما نفاه معبرا عن قلقه على مستقبل بلاده من سيطرة شيوعيين مثل روبرت موغابي مشيرا الى فساد الانظمة السوداء المستقلة المجاورة، عندما التقيته عام 1979 اثناء محادثات لانكستر هاوس في لندن برعاية وزير الخارجية اللورد كارينغتون لإنهاء الصراع المسلح في روديسيا الذي ادى لمصرع 30 الف.

وفي التسعينات شهد سميث، المتقاعد، تحقق نبوءته بتحول موغابي الى واحد من اسوأ طغاة افريقيا، فذكر سميث الصحفيين بأنه اراد تحويل البلاد تدريجيا الى ديموقراطية المساواة دون عنف. في عام 1979 عندما اتيحت فرصة الانتخابات الحرة للسود، بعيدا عن تهديد السلاح من منظمتي زابو، وزانو، انتخب الاغلبية حكومة المجلس الوطني الافريقي بزعامة الاسقف هابيل موزيريواه رئيسا للوزارة بحصوله على 51 مقعدا من 72 مخصصة للسود، وفاز حزب الجبهة الروديسية بزعامة سميث بجميع المقاعد الـ28 المخصصة للبيض. ولأكثر من عقدين في حياته المهنية كسياسي محترف، اتهم سميث بريطانيا بالخديعة ونكث العهد والتخلي عن الذين حاربوا تحت رايتها في الحرب العالمية الثانية، عندما اعلن استقلال جنوب روديسيا عن التاج البريطاني في نوفمبر عام 1965 بتصويت الاغلبية من 200 الف من البيض اثر فشل مفاوضات الاستقلال مع رئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون وقبلها بعام مع رئيس وزراء المحافظين اليك دوغلاس هيوم.

اتهم سميث بريطانيا والغرب، بالتآمر مع اليسار العالمي لدعم حركات راديكالية سوداء، بعضها ارهابي، تدور في فلك المعسكر الشيوعي والتخلي عن روديسيا المدافعة عن قيم العالم الحر في الحرب الباردة. قطع سميث ابن العشرين ربيعا دراسته عام 1939 ليلتحق بسلاح الطيران الملكي السرب 237 (سرب روديسيا) غرب الاسكندرية واشترك في المعارك ضد قوات روميل وأصيب بحروق بالغة عام 1943. كما سقطت طائرته في جبال الالب بعد عام والتحق بصفوف المقاومة الايطالية ضد قوات المحور. اقتنع سميث وزملاؤه بان روديسيا ساهمت في الحرب العالمية بتضحيات تفوق حجمها السكاني ـ مقارنة بحلفاء اعلى كثافة سكانية كمصر والهند واستراليا وكندا ونيجيريا ـ مما عمق لدى القوميين الروديسيين الاحساس بنكران بريطانيا لجميلهم وتضحياتهم. اعلنت حكومة سميث الاستقلال من جانب واحد عام 1965، مما دفع بريطانيا لفرض مقاطعة اقتصادية، ولم يعترف العالم او الامم المتحدة باستقلالها بسبب ضغوط دول الكومنولث من ناحية، واعتبار نظامها عنصريا مناقضا لميثاق الامم المتحدة من ناحية اخرى. وتجاهلت شركات كثيرة لوائح المقاطعة، وشهدت روديسيا رواجا اقتصاديا وارتفاع مستوى المعيشة، مما ادى لعناد سميث ولانهيار مفاوضاته مع زعماء بريطانيا والوسطاء الدوليين. واتسعت رقعة الحرب الاهلية التي شنتها جبهتا الزابو والزانو بزعامة موغابي ونكومو على حكومة روديسيا. خيارات سميث الوطنية التي حصرها في اطار الاستقلال لصالح 200 الف من البيض فقط والتباطؤ في توسيع مشاركة السود وضعت بريطانيا في مأزق سياسي صعب.

ففي اعادة ترتيبه لاولويات السياسة الخارجية وإصلاح ما افسده انتوني ايدن بصدامه مع الرئيس دوايت ايزنهاور اثناء حملة السويس 1956، التزم رئيس الوزراء المحافظ السير هارولد ماكميلان بمنح المستعمرات الافريقية الاستقلال في خطابه الشهير عام 1960 «رياح التغيير تهب على القارة الافريقية». رأت لندن ان تقوية الكومنولث من الدول الحديثة الاستقلال لا تكتمل الا بالديموقراطية في نظام برلماني تعددي يتناوب فيه رؤساء الوزارات الحكم بالانتخاب وتبقى ملكة بريطانيا راس الدولة لكل بلدان الكومنولث. وطبعا رفض زعماء بريطانيا ابتداءً من ماكميلان عام 1960 حتى مارغريت ثاتشر عام 1980 ـ مرورا بدوغلاس هيوم، وويلسون، وادوارد هيث، وجيمس كالاهان ـ استقلالا يضمن تفوق اقلية روديسية بيضاء بلا ضمانات لتولي الاغلبية الحكم.

توصلت بريطانيا لهذه الضمانات في اتفاقية لانكستر هاوس (ديسمبر 1979) بعودة روديسيا/زيمبابوي مستعمرة بريطانية لأربعين يوما، بمفوضية اللورد سومز لتستقل في انتخابات فبراير 1980، وينتهي ضمان مقاعد البيض البرلمانية 1987.

كانت الليدي ثاتشر نوت فور توليها الوزارة عام 1979 الاعتراف بحكومة الاسقف موزيريواه، باعتبارها ديموقراطية منتخبة تستحق الدعم بدلا من منظمات العنف المسلح بزعامة موغابي ونكومو الموالية للمعسكر الشيوعي. لكن ضغوط دول الكومنولث، وأفريقيا، وإدارة الرئيس الامريكي جيمي كارتر التي اعطت الاولوية لمحاربة التفرقة العنصرية وقاطعت جنوب افريقيا، اثنت الليدي ثاتشر عن عزمها فقدمت مبادرة لانكستر هاوس كبديل. وبالقاء نظرة على احداث التاريخ، وما حل بزيمبابوي اليوم على يد الديكتاتور موغابي من بطش بالمواطنين، السود قبل البيض، وتكميم الصحافة وتخريب الاقتصاد وإفلاس الناس وتحول واحدة من اغنى امم افريقيا الى افقر بلدان العالم، يتضح بعد نظر كل من الليدي ثاتشر والاسقف موزيريواه وسميث الى حد ما.

لكن جانبا كبيرا من اللوم يقع على عاتق سميث بسبب عنصريته وعدم مرونته، وآخر يقع على عاتق ما عرف بدول المواجهة المجاورة، زامبيا (شمال روديسا سابقا) وموزمبيق. فبدلا من ان تلعب دور الوسيط المحايد بين زعماء الحركات المسلحة، وبين وحكومة موزيريواه /سميث باستضافة مفاوضات تهدف للمشاركة السلمية في الحكم، انحازت هذه الدول للمعسكر الشيوعي وفتحت معسكرات لإيواء المسلحين وتسليحهم وأصبحت قاعدة هجوم للجماعات التي اصبحت اليوم مصدر ارهاب وإذلال لشعب زيمبابوي الذي اصبح عام 2007 اكثر فقرا وجوعا وفقدانا لحريته وكرامته مما كان عليه وضعه قبل الاستقلال.