أنابوليس: هل ربحت إسرائيل المعركة الإعلامية؟

TT

شّد انتباهي تحقيق صحافي نشرته الأسبوع الفارط جريدة «لوموند» الفرنسية عن إِبعاد الصحافيين الإسرائيليين والأجانب عن قطاع غزة. وقد أورد هذا المقال شهادة الصحافيين الذين اشتكوا من الحصار الإعلامي الذي تفرضه عليهم قوات الجيش الإسرائيلي بخصوص تغطية الأحداث في غزة. إنها الحقيقة التي نلحظها منذ حوالي سنة، فجدار العار الذي يجّسد سياسة التفرقة العنصرية التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، هو الآن يُدَعم بحصار إعلامي.

ويبدو أن إسرائيل قد فهمت الدرس واستخلصت العبّر من تجاربها السابقة وأيقنت أن إضعاف الطرف الفلسطيني يأتي أولا بتغييب قضيته إعلاميا. وأنا أذكر كم كان حجم الدعم الذي لقيته القضية الفلسطينية في فرنسا واسعا وشاملا لجميع الأوساط السياسية والشعبية بعد التغطيات الإعلامية التي كان يقوم بها الصحافيون الفرنسيون في الأراضي المحتلة، وأذكر أيضا كم كان وقع صور استشهاد الطفل «محمد الدّرة» شديدا على الرأي العام الذي راح يستنكر بشدة الممارسات الوحشية للجيش الإسرائيلي.

اليوم، للأسف أنا أتحّسر على «زمن الإعلام الجميل» وبدون محاولة لتهميش دور الإعلام العربي الذي يؤدي عملا رائعا تجاه جمهور المنطقة، إلا أن الوضع تغير بالنسبة للرأي العام الغربي الذي أصبح لا يجد من ينقل له حقيقة المعاناة الاجتماعية والنفسية للفلسطينيين بعد منع الجيش الإسرائيلي الصحافة الأجنبية من دخول القطاع بحجة حمايتها (ومتى كان الخطر لا يشكل جزءا من عمل التغطية الإعلامية؟). قطاع غزة أصبح بالنسبة للإعلام الغربي كالكيان الشبح لا تصل منه سوى صور اقتتال الإخوة الأشقاء ولا شيء عما يقاسيه الفلسطينيون وسط صمت إعلامي عالمي كبير والأولوية خطفتها أخبار إيران وتجاربها النووية التي أصبحت ترعب الغرب وتسيطر على اهتمام إعلامه.

من المؤكد أن جزءا من الرأي العام الإسرائيلي لا يهمه أن يطلّع على أوضاع الفلسطينيين تجنباً لتأنيب الضمير، أو لأن الأمر ببساطة لا يهمه، إلا أننا لا يمكن أن نتناسى من يريد السلام منهم، ولهذا فإن وصول الحقيقة لهؤلاء ضروري لأن باستطاعتهم التأثير في المشهد السياسي الإسرائيلي وتشكيل قوة معارضة داخلية، وإن كنا نلاحظ أن تغييب القضية الفلسطينية في المحافل الإعلامية قد بدأ يأتي بثماره فعلاً بعد انهزام معسكر «أنصار السلام» الذين صمتوا بشكل مفاجئ، فلم نعد نراهم ينّددون او ينشطون، ولم تعد تصل القنوات الأجنبية صورهم وهم معتصمون أمام المستوطنات للمطالبة بتفكيكها. ضعف التعبئة لدى معسكر أنصار السلام فيما يشبه رضوخهم «لأمرٍ واقع» يعود ربما لانقطاع العمليات الاستشهادية التي كانت تهيجُ الرأي العام ضد سياسة الحكومات الإسرائيلية وتزيد من حجتّهم بضرورة إحلال سلام دائم وشامل، لكن سكوت الإعلام الغربي عن ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وكأن لا أحد يُقتل ولا أحد يُظلم أو يسجن، هو بالتأكيد عامل قوي ساعد على إضعاف معسكر أنصار السلام الذين أصبحوا معزولين أكثر من أي وقت مضى. بدل ذلك أصبح الإعلام يهتم بنقل أخبار أنصار الحرب، وقد شهدنا تلك التغطية الإعلامية الغريبة التي خصّصتها الصحافة العالمية لحفل ختان ابن قاتل رابين إيغال عمير الذي وافق بوقاحة شديدة ذكرى اغتيال «إسحاق رابين» في 4 نوفمبر 1995، حتى أصبح مؤيدو القاتل و«نادي معجبيه» يجرأون على المطالبة بإطلاق سراحه وسط تغطية إعلامية شبه منحازة قدمت ـ بقصد أو بدون قصد ـ القاتل على أنه بطل بوجه إنساني يحب ويتزوج ويرزق بأطفال.

وسط كل هذه المظاهر السلبية تنطلق مفاوضات أنابوليس التي لا يمكن إلا أن نرى فيها موقف محمود عباس وهو للأسف أضعف من أي وقت مضى. فتَغييِب القضية إعلاميا زاد عليه ضعف المواقف السياسية الخارجية المؤيدة، ابتداء من الموقف الفرنسي الذي تحّول بدرجة 360 في دعمه للموقف الفلسطيني، حتى أن الناطق الرسمي للحكومة الفرنسية وصف العلاقات الإسرائيلية الفرنسية «وكأنها تعيش فترة شهر عسل» مروراً بالموقف الأوروبي الذي لم يكتف بقطع الدعم المادي عن السلطة الفلسطينية، بل أصبح يتحاشى حتى التطرق للمواضيع التي قد تغضب إسرائيل، وقد كان موقف بروكسل مخزيا وهي تسارع بوضع قرار القناصل الأوروبيين بالقدس في الدرج والتكتيم عليه بمجرد أن جاءت فيه «إشارة» لتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين بسبب الحصار الإسرائيلي، وصولاً للموقف الأمريكي الذي أقصى ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من أولويته ليضع مكانه الملف الإيراني ومعضلة المستنقع العراقي الذي بات يتخبط فيه.

رغم أني لا أحب السيناريوهات الكئيبة إلا أن البوادر كلها تشير إلى أن السلام الذي قد يأتي به مؤتمر أنابوليس لن يتعدى إطار الصور التذكارية لقبضات الأيدي بين أطراف النزاع في ذلك اليوم وهو «سلام المظاهر» الذي تريده إسرائيل والولايات المتحدة.

[email protected]