الأخ الكبير

TT

هل خطر لك يوما ان ترتيبك في الأسرة حدد مسار حياتك ونقش علي جدران وجدانك ابجدية استمرت معك وحددت معالم شخصيتك ونوعية تفاعلك مع الآخرين ومدى اقبالك او اعراضك عن الحياة؟ هذه التساؤلات شغلت الباحثين والعلماء منذ عشرينيات القرن الماضي. أشهر من اهتم بتلك القضايا طبيب نمساوي اسمه الفريد ادلر ترك الطب واتجه نحو دراسة علم النفس في عشرينيات القرن الماضي. انشغل بظاهرة سلوكية تختص بالابن البكري في الاسرة او من درجنا على تسميته بالاخ الكبير. هذا المخلوق في نظرية ادلر يولد محظوظا لأنه يتمتع باهتمام غير عادي من قبل الوالدين. وتمضي الايام ثم يولد الطفل الثاني فيشعر الاول بأنه فقد عرشه ويصبح معقدا.

ومن هنا انطلق ادلر ليفترض ان الابن الكبير في مراحل الحياة المختلفة يعاني من العصاب نتيجة لما عاشه في الطفولة ولأنه الكبير يتحمل في مراحل النضج المتقدمة قدرا مضاعفا من المسؤولية التي تتسبب في احساسه بالانطواء فيبدو للآخرين عزوفا مهموما. ولأن الطفل الثاني لا يجرب الاحساس بفقدان الحظوة عند الوالدين فمن الطبيعي ان يكون اكثر اعتدالا في انفعالاته من الكبير. ولذلك لاحظ ان الاوسط في الاسرة غالبا ما يكون اكثر انطلاقا واكثر دفئا واكثر نجاحا في الحياة. اما اخر العنقود فهو في جميع الثقافات وبجميع اللغات سكر معقود، يغدق عليه الوالدان المديح والتدليل ولا يرفضون له طلبا فيشب على الانانية ويقبل على المغامرات الثورية غير المحسوبة. الطريف في الموضوع ان ادلر نفسه كان ترتيبه الاوسط في اسرة مكونة من ستة اولاد وبنات وانه لم يقدم للعالم اية اسانيد علمية تثبت صحة نظرياته.

لو صدق ادلر لوجدنا ان الزعيم الكوبي فيدل كاسترو والملياردير الاميركي بيل جيتس نسخة مكررة لانسان دافئ المشاعر مبدع وصاحب مهارات اجتماعية متطورة لا لسبب الا لأن كلا منهما كان الولد الاوسط في اسرته. ولوجدنا ايضا قواسم مشتركة بين الفيلسوف الفرنسي ديكارت والرئيس الاميركي الراحل رونالد ريجان حيث كان كلاهما الابن الاصغر لوالديه. اطرف ما في القضية كلها ان ادلر ومن تبعه لم يأخذ الاناث في الاعتبار . فلا يهم مثلا ان يكون المولود الاول للاسرة انثى. حين يأتي المولود الثاني ذكرا يكنى بالاكبر ثم يبدأ التنظير والافتراض والمراقبة. ولذلك اعتبر ان كوني انثي نعمة كبيرة لأنني افلت من نظريات ادلر وشركاه.

وان لم تخني الذاكرة اتذكر ان اخي الكبير لم يحمل للدنيا هما رغم انشغالاته الكثيرة كأستاذ جامعي. كان محبا للحياة وسريع التواصل مع الاخرين، مغامرا مقداما حتى اخر العمر. اما شقيقي الاوسط اطال الله في عمره فلم يخط خطوة واحدة خارج الطريق المرسوم طوال حياته كما انه شديد الخجل خارج اطار نشاطه العملي كطبيب. نظرية ادلر لم تحسب حسابا للظروف الاسرية ولا لاختلاف تعامل الوالدين مع كل ولد ولا للتجربة المدرسية التي تترك اثرا لا يمحى بسهولة على التكوين الشخصي للافراد. الاحساس بالامان النفسي داخل الاسرة والتشجيع على التفوق في المدرسة والقدرة على اكتساب الاصدقاء كلها عوامل ترسم ملامحنا السلوكية على المدى الطويل. وسواء كنت الابن الكبير او البنت الصغيرة نصيبك يصيبك لأسباب لا يعلمها الا من خلقك وانشأك.