أسرار القوة: وقُل ربي زدني علما

TT

في كلّ عام نتابع أخبار الجوائز العلمية والأدبية والفنية والرياضية العالمية كمن ينتظر حدثاً على كوكبٍ مختلف، لا علاقة لنا به سوى سماع أخباره مدركين سلفاً أنّ علماء الولايات المتحدة وأوروبا، مثلاً، سيحصدون جوائز نوبل في الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد، وحتى في الأدب أيضاً، فهي في الغالب حكرٌ على أدبائهم. ويأتي غياب علماء الدول العربية والإسلامية عن جوائز نوبل في العلوم والتكنولوجيا للعقود الماضية دليلاً آخر على تراجع عام أصاب جوانب النهضة الحديثة ومنها مؤشر البحث العلمي في الدول العربية والإسلامية. وقد تزامن الإعلان عن جوائز نوبل هذا العام مع صدور ورقة بحث قدّمها السيد برويز أميرالي هودبو، أستاذ الفيزياء في جامعة كاديدي عظم الباكستانية في إسلام أباد، والذي حلّل فيه أسباب تراجع مساهمة العالم الإسلامي في الإنجازات العلمية وسبل إيقاف هذا التراجع في المستقبل.

يشير البحث إلى أنه في منتصف القرن الثامن حين ثبّت الإسلام سلطته السياسية والعسكرية، نشطت الحركة الفكرية والعلمية والفنية والأدبية، وانتشرت العولمة الثقافية والتجارية بين المسلمين والحضارات القريبة والبعيدة، وتبوّأ العلماء والفنانون والمفكرون والأدباء منزلة عالية في المجتمع، فانتعشت الحركة الإبداعية في الفنون والآداب والعلوم معاً. ولكنّ الغزو الأجنبي، وتخلّف الممارسة السياسية أديا إلى امتداد فترة ركود في الفكر والإبداع، ما عدا بعض الومضات. ومع أنّ البحث يحاول أن يعزو هذا التردّي إلى تركيز علماء المسلمين على البحث في الدين والعبادة والصلاة والشريعة والابتعاد عن البحث في العلوم الحديثة، فإنّ الواضح في البحث أيضاً هو أنّ القرنين العشرين والحالي، اللذين شهدا تراجع دور البحث العلمي في جامعات الدول الإسلامية والعربية الحديثة وانخفاض نسبة الأموال المخصصة للأبحاث في معظم هذه البلدان، هما أيضاً امتداد لحالة الافتقار التي سادت طوال قرون، لمؤسسات ولآليات عمل تشجّع الابتكارات العلمية والفكرية الجادّة، والتي أصبحت مقياساً أساسياً في عالم اليوم، كما كانت في القرون الماضية، لقوة وتنمية هذه الدول ولمكانتها الدولية. لقد ركّز الباحث على مقارنة الإنتاج العلمي في دول منظمة المؤتمر الإسلامي مع مثيله في بقية دول العالم، فوجد مثلاً: أنّ 46 دولة مسلمة ساهمت بـ 1.17% من إنتاج العالم العلمي، بينما ساهمت الهند بـ 1.66% من هذا الإنتاج، واسبانيا بـ 1.48%. كما وجد أنّ عشرين دولة عربية قد ساهمت بـ 0.55% من الإنتاج العلمي في العالم، بينما ساهمت إسرائيل لوحدها بـ 0.89%. وقد أظهرت الجامعة الإسلامية في ماليزيا أنّ دول منظمة المؤتمر الإسلامي لديها 8.5 عالم ومهندس وتقني لكلّ ألف شخص، مقارنة مع المتوسط العالمي البالغ 40.7 عالم ومهندس وتقني لكلّ ألف شخص، ويرتفع هذا الرقم في منظمة الدول الاقتصادية الثماني ليبلغ 139.3. وبالنسبة لبراءات الاختراع فإنّ دول منظمة المؤتمر الإسلامي تنتج رقماً لا يستحقّ الذكر مقارنةً مع البلدان الأخرى. ويظهر هذا التراجع أيضاً في الأموال التي تُخصصها هذه البلدان لتطوير العلوم والتكنولوجيا حيث أنّ دول منظمة المؤتمر الإسلامي الـ 57 تخصّص وسطياً 0.3% من الناتج القومي الإجمالي للأبحاث، والذي هو أقلّ بكثير من المتوسط العالمي الذي يصل إلى 2.4%، ومع أنّ بعض الدول مثل إيران وتركيا وماليزيا قد زادت من الأموال المخصصة للأبحاث العلمية والتكنولوجيا، فإنّ معظم دول منظمة المؤتمر الإسلامي وكلّ الدول العربية تعتبر مستهلكة للتكنولوجيا والمنتجات الفكرية المستوردة، وغير منتجة لأي منها.

وحين نتحدث عن الأبحاث فهي تشمل الأبحاث الزراعية والعسكرية والصناعية والاقتصادية والفلسفية والإدارية والأدبية. وتخلّف الدول الإسلامية في الإنفاق على تطوير مناحي الإنتاج العلمي، والابتكار التكنولوجي، والإبداع الفكري يعني اعتمادها على ما ينتجه الآخرون، ويعني بالنتيجة تسرّب علمائها ومفكريها ومبدعيها إلى الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية الناشطة في هذه المجالات ليساهموا بالنهضة العلمية التقنية في الغرب والتي تعيد تصدير سلعها الماديّة والفكريّة للبيع في البلدان الإسلامية بالأسعار والشروط التي تناسب مصالحها الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية. وبهذا تخسر البلدان الإسلامية مرتين: فهي تخسر العلماء المبدعين من أبنائها الذين أنفقت الأموال والجهود والزمن على إعدادهم، وحين اقتربوا من الإنتاج ولم يجدوا الجامعات والمناخ العلمي ومؤسسات البحث العلمي في بلدانهم يهاجرون إلى جامعات تنتظرهم في الغرب، والتي وضعت الأسس والنظام الذي يستنفد كلّ ما لديهم من طاقة فكرية وإبداع، ومرة ثانية عندما تعود منتجات هؤلاء العلماء وأقرانهم في الغرب لمستهلكيها في البلدان الإسلامية الذين يكتفون بتصدير موادهم الخام كما كانوا قبل عقود، ويستوردون منتجات مصنّعة كان يجب أن تنتج في بلدانهم لو أنهم خصصوا المال والجهد اللازمين للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والتحديث الجامعي. ومع أنّ كلّ تجارب الشعوب تشير إلى أنّ الارتقاء بالنظام التعليمي، والبحث العلمي، والابتكار التقني هو مفتاح التقدّم والتنمية في عالم اليوم، فإنّ ما تُخصصه الدول الإسلامية، ومنها العربية، لا يذكر مقارنة بما يخصصه المتوسط العالمي، لا، بل إنّ التعليم والبحث العلمي في العالم العربي يشهد تراجعاً عمّا كان عليه الوضع في سبعينيات القرن الماضي بحيث أصبحت مساهمة جامعاتنا العربية في الأبحاث المنشورة في العالم مساهمة مخجلة بالفعل، مما يؤكّد أنّ الجامعات العربية قد تحوّلت بفعل السياسات الحكومية الراهنة إلى مدارس كبيرة يتخرّج منها حملة شهادات بدون أن تقدّم مهارات البحث العلمي، ومؤهلات الاختراع وبذلك يتخرّج منها شبّان وشابّات غير قادرين على التّأقلم الفوري مع سوق العمل. وقد أدركت بلدان عديدة أنّ إصلاح التعليم، وخاصة الجامعي، وتخصيص التمويل السخيّ للبحث العلمي، هو الاستثمار الحقيقي في تحقيق ازدهار الشعوب حاضراً ومستقبلاً. فقد استدانت ايرلندا مثلاً في العشرين عاماً الماضية الأموال لتنفقها في تطوير التعليم مما أدى إلى أنها تشهد قفزة تنموية ملحوظة اليوم.

إنّ قراءة واقع البحث العلمي، والإنتاج الفكري، في الدول الإسلامية يعكسان تماماً دور هذه الدول السياسي المتراجع كمجموعة على الساحة الدولية. صحيح أيضاً، أنّ منتجي السلاح من مراكز أبحاثهم ومصانعهم يمثّلون اليوم القوة العسكرية التي تلعب دوراً هاماً في السياسة الدوليّة، وصحيح أيضاً، أنّ منتجي السلاح يتحكّمون بالقرار السياسي تماماً كما يتحكّم منتجو القمح برغيف الخبز في الدول الأخرى ويلوون أذرعهم متى شاؤوا. إنّ ازدهار البحث العلمي ليس وقفاً على ازدهار الآداب والفلسفة والفكر والفنون، ولكنّه أيضاً يلعب دوراً هاماً في التقدم الصناعي على أسس تنمويّة وطنية تعتمد عوامل ذاتية غير خاضعة لرغبات البعض العدائيّة، أو مصالحهم، أو قراراتهم بالحصار والعقوبات.

في زمن تعصف به السياسات الغربية الشمولية بمصالح البلدان الإسلامية، في عصر يشهد عودة الهيمنة الإمبراطورية العسكرية لقوى القرون المظلمة الماضية، في عالم يهدّدنا بالمآسي والكوارث والحروب والحصار، وتفرض فيه القوى الشمولية الكبرى الإهانة والإذلال على الشعوب، وتسرق في وضح النهار مواردها، وتاريخها، وآثارها، وتدمّر أمنها واستقرار اقتصادها، وتهدّد بسحق هويتها، يكون بالتأكيد من المفيد أن تعيد الحكومات الإسلامية النّظر في أولويات سياساتها كي تكتشف خريطة الطريق الحقيقية لمستقبل واعد. الكثير مما يُثار عن أسباب تراجع الدول الإسلامية مغرض، وقد يكون سطحياً وعنصرياً، ولكنّ حقيقة الأمر هي أنّ هشاشة النظام التعليمي، ونمطيّة التعليم الجامعي، وتخلّف البحث العلمي في الدول الإسلامية بحاجة إلى إعادة نظر جوهرية من أجل جعلها تواكب متطلبات العصر، وتأخذ بالاعتبار خلق المناخ المناسب لملايين العلماء من هذه البلدان الذين يؤمّون شطر الغرب سعياً في مناكبه وبحثاً عن نظام يستثمر مواهبهم وطاقاتهم. علّ الوهن العسكري والسياسي الذي تعاني منه هذه البلدان أمام الأجنبي المعادي يكمن أصلاً في الوهن الذي تشهده مناحي التعليم والبحث والتكنولوجيا، وعلّ عناصر المنعة السياسية، والمكانة الدولية تنطلق من هناك أيضاً.

www.bouthainashaaban.com