في شكر العقوبات الأميركية

TT

كان كمال جنبلاط معذبا بلبنان. كان يشعر أن لبنان أقيم للدروز واختطفه الموارنة الذين قتلوا جده وأخذوا إمارته. وكان ذلك في القرن التاسع عشر عندما تهافتت العائلات على الزعامة في «لبنان الصغير» إلى درجة أن بعض السنة تحول للمارونية (آل شهاب)، كذلك فعل بعض الدروز (آل أبي اللمع) وحصل حينها قتل عظيم وحرب طويلة امتدت إلى دمشق.

وكان كمال جنبلاط يشعر أيضا أنه شديد الثقافة بين سياسيين اخوياء. ومن أجل أن يبني زعامة كبرى بطائفة قليلة العدد، اتجه إلى اليسار فذهب بعيدا مع السوفيات وتبنى الثورة الفلسطينية في الداخل ونجح في جعل الحركة العربية تحت قيادته. وكاد في بداية الحرب اللبنانية أن ينجح في تغيير القوى وإسقاط النظام واستعادة الإمارة. لكنه اغتيل قبل أن يكمل حلمه.

ورثه ابنه ووحيده، وليد جنبلاط. تأمل خريطة الصراع في لبنان والصراع العربي وقرر أن يكون محدود الحلم. لكنه ظل في اليسار، جغرافيا على الأقل. وبدل أن يغوص في قراءة الفلسفة الهندية والشعر الفرنسي، مثل والده، انصرف إلى قراءة ألعاب الأمم ومتغيرات الأزمان والأحوال ومصائر الدول والرجال.

أدرك وليد جنبلاط أن لبنان ساحة لصراع البقاء تدور فيها ـ أو عليها ـ الدوائر. وفيما تجمد كمال جنبلاط في موقعه، ركب وليد جنبلاط ظهر البوصلة في عالم عربي متحول على نحو مثير للخوف والشفقة. وذاعت سمعته بأنه قارئ حاذق لتبدلات الريح ومراقب دقيق لمجاري الأنهر. ولم يكن يجد ضيرا في أن يترك البوصلة أن تحمله في اتجاهاتها المتنافية، في بلد مسكين، لا يحلم بأكثر من ألا تتحول الريح إلى عاصفة أو العاصفة إلى إعصار.

قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري بقليل قال عن ولفويتز الذي جاء يزور بغداد إنه يتمنى أن تسقط قنبلة على غرفته. ومنع يومها من دخول أميركا. وبعد اغتيال الحريري قال إنه يتمنى أن يكون «زبالا في نيويورك ولا زعيما في بيروت». وعلق يومها السفير الأميركي ديفيد ساترفيلد أنه سيرسل إلى جنبلاط بزة زبال في نيويورك وتأشيرة دخول!

راهن وليد جنبلاط بوضوح على الدعم الأميركي «لمسيرة السيادة والاستقلال». وانقلب من تحالفات الأمس إلى تحالفات اليوم. ورفع الصوت عاليا في كل اتجاه. بل رفع العلم الفرنسي في قلب بيروت نكاية بالعلم السوري. وقبل شهر أمضى أسبوعا في واشنطن. وعاد هادئا. وسئل عن سبب التحول، فقال إنه هاجس الأمن والخوف من القتال الأهلي. لكن ذلك لم يكن كل الحقيقة. كل الحقيقة أن وليد جنبلاط اكتشف في واشنطن أن كل الدعم الأميركي انحصر «في فرض العقوبات على وئام وهاب». وهو حاذق في قراءة الرسائل.