لبنان ينتظر من «أنابوليس» إما الانفراج أو الانفجار!

TT

للمرة الثانية «تنتصر» سوريا على الولايات المتحدة في لبنان. المرة الأولى كانت عام 2004 عندما تقدمت واشنطن وباريس بالقرار 1559 الى مجلس الأمن وحذرتا سوريا من محاولة التمديد للرئيس السابق إميل لحود. ضربت سوريا بالتحذير عرض الحائط حتى وصلنا الى المرة الثانية، عندما منعت الأحزاب الموالية لها من المشاركة في جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

كانت الكتابة على الحائط كما يقولون، إذ منذ الاعتصام ونشر خيم المعارضة في ساحتي بيروت، وضرب الاقتصاد في قلب بيروت، قرر رئيس مجلس النواب نبيه بري «مواكبة» الاعتصام بإغلاق المجلس، وعدم السماح لممثلي الشعب اللبناني بممارسة مسؤولياتهم. لم يحدث في أي دولة في العالم أن يبقى أولاً رئيس المجلس في منصبه مدة تزيد عن 15 سنة، ولم يحدث ثانياً وفي أي دولة في العالم أن يكون رئيس المجلس الذي هو جزء من الحكم، في المعارضة وأن يكون على رأس ميليشيا مسلحة أيضاً، ولم يحدث في ظل أي قانون، ألا يجرؤ أحد على محاسبة رئيس المجلس لعدم قيامه بمسؤولياته، ولمنع النواب من القيام بواجباتهم تجاه من انتخبوهم. هل ان «اتفاق الطائف» صب مفتاح مجلس النواب على قياس جيبة نبيه بري، وهل ان «حديد» هذا المفتاح فيه السر الذي يمنع كل الفرقاء في لبنان، المع والضد، من انتقاد رئيس المجلس الذي منذ الشهر الأخير من العام الماضي يمارس عن سابق تصور وتصميم عملية «خداع» الشعب اللبناني، مرة يعده بمفاجأة، ومرة يقول إنه تنازل عن حق المعارضة بحكومة اتحاد وطني، ومرة يقول إنه وراء البطريرك الماروني في أي لائحة يختارها، وإنه لا بد من رئيس للجمهورية قبل انتهاء المدة الشرعية. والآن وفيما الكل يعرف بأن جلسة يوم الجمعة الثلاثين من الشهر الجاري لن تُعقد، يقول رئيس المجلس إنه يتوقع أخباراً متفائلة مساء الأربعاء (أمس)! أخذوا من البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير رفضه انتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائد واحد، احتراماً للدستور، لكنهم لم يبادلوه بالنزول والدخول الى قاعة مجلس النواب وحضور الجلسة لإكمال نصاب الثلثين، احتراماً للدستور، وهم يعرفون أن عدم مشاركتهم تعني أن لا انتخاب. لا يمكن أن أنقل الصفات التي ينعت بها اللبنانيون، أهل السياسة في لبنان، وذلك احتراماً للقراء ليس أكثر، لكن أستطيع القول إنه بعد فشل الاستحقاق الرئاسي تبين أن لا طبقة سياسية في لبنان، بل ناد للسياسيين، وان أعضاءه يعتمدون على معادلة: الكرسي موجود فأنا موجود. ذلك الكرسي ولو كان مهلهلاً يحدد كل عالم رجل السياسة في لبنان.

تأكد الآن أن السياسيين في لبنان مجموعة من الأشخاص تريد المحافظة على موقعها الفردي الشخصي. في المجتمع اللبناني الذي زيّفه هؤلاء، فإن السياسي غير الجالس على «كرسي» يصبح صفراً. لذلك هو مستعد أن يموت شرط ألا يكون صفراً. والسياسيون أنفسهم يتجنبون من يصبح صفراً، وبرز ذلك في الطريقة التي غادر فيها الرئيس السابق إميل لحود القصر، فحتى المؤيدون الذين زاروه قبل يومين فقط من انتهاء مدته ليقنعوه بتشكيل حكومة ثانية، أداروا له ظهورهم ولم يقوموا بأبسط قواعد اللياقة لوداعه. في نظرهم هو غادر الكرسي وصار صفراً. لقد هان عليهم لبنان وأثبتوا أن لا أحد منهم هو «أم الصبي»، وبسبب ما أوصلوا لبنان اليه، صار الوضع كله مطروحاً على الطاولة الآن، إما أن يتفقوا حول أحد الأسماء خلال شهر و«بنفوذ سوري»، أو أن الوضع سيبقى متآكلاً وتقسيمياً وسيصبح وضع لبنان بعضاً من الصومال وبعضاً من أفغانستان (مع عودة ازدهار زراعة الحشيشة في البقاع) ونتجه الى الفوضى.

راحت على المسيحيين... يتردد هذا كثيراً في لبنان. وأسأل صديقاً علمانياً هذا السؤال: يستنكر أولاً ثم يوضح: «إذا كانت الاستراتيجية الأساسية عند إسرائيل أو لدى بعض صانعي القرار في الإدارة الأميركية الحالية، تغذية الشرخ السني الشيعي، ستكون هذه الأولوية في السياسة، وسيكون المسيحيون والمعتدلون والعلمانيون ضحايا غير محسوبين لهذه السياسة». ويضيف: «المشكلة ان السياسيين اللبنانيين لا يعرفون المشاريع التي تُحضر أو تُطبخ، إن المرحلة متشعبة الآن، والسياسيون اللبنانيون يدخلونها من نظرة محلية.

ولأن السياسيين في لبنان فقدوا مصداقيتهم وسقطوا في الحفر التي تركتها كراسيهم، لا بد من استيضاح مخلصين لبنانيين أمضوا نصف عمرهم يكتبون عن القضية اللبنانية، ومن أبرزهم البروفسور فيليب سالم الذي عمل مستشاراً في إدارة الرئيس جورج بوش الأب، وفي فترة حكم الرئيس بيل كلينتون الأولى، ومنحه الكونغرس الأميركي ميدالية الحرية في الوقت الذي كان يلقي فيه داخل الكونغرس محاضرة عن سبب فشل السياسة الخارجية في الشرق الأوسط: «لأن سياستها تجاه إسرائيل والعرب لم تكن عادلة».

في الكتب العديدة التي أصدرها والمحاضرات والدراسات التي أعدها، يكرر البروفسور سالم أن مسؤولية الحرب في لبنان مسؤولية اللبنانيين بشكل عام ومسؤولية «الطبقة السياسية» بشكل خاص، فهي الطبقة التي أوصلت لبنان الى ما هو عليه وبالتالي ليست قادرة على رفعه من القعر. طوال حياته يطالب البروفسور سالم بلبنان سيداً حراً ومستقلاً ويرفض أي سيطرة سورية عليه، وتتكرر هذه العبارة بشدة طوال فترة الحوار معه، لكنه في الوقت نفسه يعرف مدى قوة سوريا في لبنان وبالتالي «من الصعب تحقيق الاستقرار فيه إذا لم تكن سوريا راغبة في ذلك»، ويقول سالم: «إن لبنان اليوم هو خط تماس بين إسرائيل والعرب، وخط تماس بين أميركا من جهة وسوريا وإيران من جهة أخرى».

لقد صار معروفاً أن سوريا تريد ثمناً لتوفر الاستقرار للبنان ولن تقدمه مجاناً، والثمن الذي تطلبه سوريا، ومن ورائها إيران، لا تملكه أوروبا مجتمعة، بل أميركا. ويقول البروفسور سالم: «من هنا قال وزراء الخارجية الأوروبيون عندما كانوا في لبنان إنهم ينتظرون ما سيجري بعد مؤتمر «أنابوليس»، لأن ورقة التفاوض الكبرى هي بين الأميركيين من جهة والسوريين والإيرانيين من جهة أخرى، وليس بين الأوروبيين وسوريا».

أما عن الثمن الذي تطلبه سوريا لتعتق لبنان فإنه حسب البروفسور سالم: «الخروج من العزلة والمشاركة في عملية السلام الشامل، وبالتالي بدل أن تضغط أميركا على إسرائيل لتمنعها من محاورة سوريا في قضية السلام، عليها أن تشجعها ليرى السوريون ما إذا كان بإمكانهم استرجاع الجولان وهذا حقهم، والثمن الثالث الذي تطلبه سوريا لفك أسر لبنان هو المحكمة الدولية. وبانتظار قبضها الثمن، أظهرت سوريا لأوروبا والغرب أنها قادرة على منع الاستقرار في لبنان وأجهضت بالتالي عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية». يقول لى سياسي لبناني مخضرم عرف السوريين عن قرب: «إن الموارنة عقدة السوريين، كان حلم الرئيس الراحل حافظ الأسد أن يتحالف مع الموارنة لكنهم قاتلوا السوريين طوال ثلاثين عاماً، وجاءت دمشق الآن لتنتقم من لبنان ومن الموارنة بالقضاء على ما يعتبرونه آخر رموز وجودهم وهو كرسي الرئاسة». ويضيف «إن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط شعر بهذا الخطر إنما متأخراً، فهو يعرف أن زعزعة جذور أقلية قوية مثل الموارنة تعني القضاء على أقلية أخرى مثل الدروز».

لكن، لماذا تنجح سوريا دائماً في لبنان؟

يجيب البروفسور سالم: «لأن لسوريا حلفاء أقوياء جداً في لبنان. لا أحد يمكنه الادعاء بأن «حزب الله» ليس حليفاً لسوريا، وهو قوي جداً سياسياً وعسكرياً ومادياً، ومن لديه المال والجيش يقرن القول بالفعل».

يلوم سالم اللبنانيين، لكنه يدعو الى معرفة الجذور الدولية للمشكلة اللبنانية، والحل برأيه في أنابوليس الآن. يقول: «إذا أرادت أميركا أن تنجح في سياستها في الشرق الأوسط عليها القبول ترفع العزلة عن سوريا وإدخالها في عملية السلام الشامل ومساعدتها على استرجاع الجولان وتحفيز وضعها الاقتصادي، هذه الأمور ستكون بوابة الاستقرار في لبنان. ولا استقرار فيه إذا لم تكن سوريا راغبة في ذلك».

ويضيف: «إذا لم تدخل أميركا على خط الحوار مع سوريا فلن يكون هناك رئيس في لبنان، وطالما ظلت سوريا قادرة على الضغط على «حزب الله» وعلى المعارضة فلن يكون هناك رئيس للجمهورية، إذ لدى المعارضة في لبنان حق الفيتو، وأي شخص لا تريده لن يصل». وأسأل البروفسور سالم: إذا كانت مشكلة لبنان في العلاقة السورية فكيف يمكن للبنان إنقاذ نفسه، وإذا ما رفضت إدارة بوش الحوار مع سوريا فهل يعيش لبنان هكذا حتى عام 2009؟ يجيب: «إن على اللبنانيين الذين يتوقون الى لبنان سيد، حر ومستقل، أن يطلبوا من الأميركيين محاورة السوريين. هذه مصلحة لبنان وأنا واقعي. لبنان لا يمكنه هدم الجدار من دون التعاون مع الأميركيين وتشجيعهم على الحوار مع سوريا». ولأن دوران لبنان في فلك اللاتوازن سيطول مبدئياً، رغم تفاؤل رئيس مجلس النواب، سأطرح في الأسبوع المقبل مسألة التحييد السياسي للبنان، لأن مشكلته بشعبه وجيرانه، ومعنى لبنان، ومن الأكثر حاجة للنظام السوري، ورغبة «حزب الله» في البقاء أقوى من الدولة. إنما وحسب ما يقول أحد المراقبين السياسيين: إن مؤتمر أنابوليس هو الميزان الآن، فإذا أعطى الأميركيون السوريين وعداً مضموناً، يتنفس لبنان، وإذا غادر السوريون خاوي الوفاض، انفجر الوضع في لبنان»!