الأردن: خريف «الإخوان» بدأ بهزيمتهم في معركة البرلمان!

TT

ما جرى في انتخابات الأردن التشريعية الأخيرة يجب ألا تمر عليه تنظيمات وحركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية كلها مرور الكرام. إنه يستحق مراجعة حقيقية ويستحق وقفة طويلة لاستنباط العبر والدروس، فالهزيمة التي لحقت بالإخوان المسلمين تاريخية بالفعل، والنتائج التي أحرزها هؤلاء أكدت أن هذا الحزب، الذي تأسس عام 1946 ولعب دوراً أساسياً ورئيسياً في الحياة السياسية الأردنية لأكثر من نصف قرن، فقد دوره ومكانته، وأنه سيصبح حزباً هامشياً إن هو لم يراجع مسيرته، وإن هو لم يتحول من حزب شعارات صاخبة إلى حزب برامج واقعية قابلة للتطبيق.

خاض «الإخوان المسلمون» معركة هذه الانتخابات بقائمة رسمية ضمت أسماء اثنين وعشرين مرشحاً من قياداتهم الرئيسية المحسوبة على

«معسكر الحمائم» في تنظيمهم الذي يعتبر الحزب الفعلي الأكبر في الأردن، والمفاجأة أنهم بينما كانوا يتوقعون فوز معظم هؤلاء على الأقل، فإن النتائج جاءت هزيمة نكراء مدوية حيث لم يحالف النجاح إلا ستة فقط ليس من بينهم أيٌّ من القيادات التاريخية التي تبوأت مناصب حكومية رفيعة أيام شهر العسل الطويل مع الدولة الأردنية. كان هؤلاء قد فازوا بسبعة عشر مقعداً من مقاعد البرلمان السابق، ولهذا فقد كانوا يتوقعون أن يحافظوا على الأقل على هذا العدد في هذه الانتخابات الأخيرة، إن هُمْ لم يحرزوا بعض التقدم ويحصلوا على مقاعد إضافية جديدة لكن النتائج جاءت مخيبة لآمالهم لتظهر أن دورهم سيصبح هامشياً وثانوياً إن هم لن يتداركوا أنفسهم ويقوموا بمراجعة جدية لبرامجهم ومنطلقاتهم، وإن هم لن يعيدوا النظر في وضعهم التنظيمي الذي غدا مهلهلاً في السنوات الأخيرة. وبالطبع، فإن «الإخوان»، وهذا يدلُّ على أنهم لا ينوون الاستفادة من دروس هذه الهزيمة القاتلة، بادروا وكالعادة وبينما كانت عمليات فرز صناديق الاقتراع لا تزال مستمرة، إلى التشكيك في نزاهة الانتخابات بل واتهام الحكومة «الراحلة»، أي حكومة الدكتور معروف البخيت التي حلت محلها حكومة المهندس نادر الذهبي، بأنها تتدخل تدخلاً سافراً في مجريات العملية الانتخابية، وهنا فإن الأمانة تقتضي القول إن هذا الاستحقاق الديموقراطي جاء معقولاً ومقبولاً رغم وقوع بعض المخالفات الفردية التي لا يمكن إنكارها. والسؤال الذي لابد من طرحه في هذا المجال هو: ما الذي حصل؟ ولماذا حلَّت هذه الهزيمة القاتلة بحزب بقي يشكل محوراً رئيسياً من محاور الحياة السياسية الأردنية على مدى نحو نصف قرن؟

عندما اضطر العاهل الأردني الراحل الملك حسين عام 1957 إلى وضع حدٍّ للخيار الديموقراطي، الذي كان قد اختاره مع بدايات عهده في بدايات خمسينات القرن الماضي، دفاعاً عن بلده ونظام حكمه الذي استهدفته عاصفة الانقلابات العسكرية، بقي «الإخوان» الحزب الوحيد في الميدان فجميع الأحزاب الأخرى، حزب البعث وحركة القوميين العرب والحزب الشيوعي، قد جرى حلها وتم إيقاف صحفها ومنع أنشطتها العلنية وهكذا، فإنه عندما استؤنفت العملية الديموقراطية عام 1989 لم يبدأ هؤلاء من الصفر فحزبهم أصبح متغلغلا في حياة الناس، وكان يحتل مواقع رئيسية في المؤسسات الحكومية والوزارات الأساسية، وفي مقدمتها وزارة التربية والتعليم.

ولهذا، فإن حزب الإخوان المسلمين، حقق فوزاً كاسحاً في انتخابات عام 1989 البرلمانية، مكنه من أن يكون شريكاً رئيسياً في الحكومة اللاحقة التي شكلها مدير المخابرات الأسبق مضر بدران المعروف بتعاطفه مع الحركة الإسلامية، وحقيقة أنه كان بالإمكان أن يصبح «الإخوان» رقماً رئيسياً في معادلة الحكم في الأردن لو أنهم تصرفوا كحركة راشدة مسؤولة.

لم يستطع هذا الحزب المحافظة على اعتداله وهدوئه ووسطيته وعلاقاته التاريخية بالنظام الأردني، وهو تعرض لغزو جيل الشباب الذين تأثروا بحركة «حماس» الناشئة التي كانوا يعتبرونها حركتهم وبظاهرة التطرف الإسلامي، وهذا كله حول الإخوان المسلمين إلى تنظيم مناكف ومعارض للتوجهات الأردنية الرسمية، فانتهى ذلك التحالف التاريخي بينهم وبين الحكم الأردني وتحولوا إلى ما يشيه الخنجر المؤلم في خاصرة هذا الحكم. وهكذا، وبدل أن يقف هؤلاء موقفاً شبه محايدٍ بين الدولة الأردنية، التي من المفترض أنها دولتهم، عندما اشتد الخلاف بين هذه الدولة وحركة «حماس» رموا بكل ثقلهم إلى جانب هذه الحركة وانحازوا حتى إلى أخطائها، وهذا أدى إلى تباعد تدريجي بينهم وبين الشعب الأردني وصل إلى ذروته عشية معركة الانتخابات التشريعية الأخيرة حيث لحقت بهم هزيمة نكراء جعلت بقاءهم حزباً واحداً موضع تساؤل. هناك سببان رئيسيان لهزيمة الإخوان المسلمين في معركة الاستحقاق الديموقراطي الأخيرة في الأردن، هذا بالإضافة إلى أسباب بنيوية وتنظيمية وسياسية كثيرة أخرى، وهذان السببان هما:

أولاً: أنهم تبنوا الانقلاب الدموي الذي نفذته «حماس» في غزة منتصف يونيو (حزيران) الماضي، أي قبل نحو خمسة أشهر مـن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهذا شكل شرخاً عميقاً بينهم وبين الرأي العام الأردني الذي اتخذ موقف الرفض والإدانة إزاء هذا الانقلاب الذي أوجع ضمائر الأردنيين كلهم مَنْ منهم من أصولٍ فلسطينية ومَنْ منهم من أصول شرق أردنية.

ثانياً: أنهم ذهبوا إلى المعركة الانتخابية التي كانت خسارتهم فيها فادحة ومميتة، وهم منقسمون على أنفسهم، وذلك إلى حد أن الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الذي هو وجه العملة الآخر للإخوان المسلمين لم يسمح له زملاؤه بترشيح نفسه لهذه الانتخابات، وهو أيضاً لم يُستشر من قبل هؤلاء في لائحة مرشحي هذا الحزب الرسمية الذين تم اختيارهم كلهم من معسكر «الحمائم» الذي ذهب إلى هذه الانتخابات، وهو يخوض صراعاً مدمراً مع المعسكر الآخر الذي هو معسكر «الصقور». لقد ذهب الإخوان المسلمون إلى معركة مصيرية وبكل هذه الأهمية، وفي وقت من أصعب الأوقات وظرف من أدق الظروف بشعارات قديمة بعيدة عن هموم الأردنيين ومتطلباتهم وبسيوف خشبية وبفوضى وعدم تنظيم، ولذلك، فإن المؤكد أن هذا الخريف سيكون «خريفهم» إن هم لن يخوضعوا مسيرتهم وتنظيمهم وبرامجهم وأدبياتهم وعلاقاتهم بالمجتمع والدولة لنقد ذاتي صارم ولمراجعة نقدية حقيقية.