«الأطواق السبعة» حول عنق الأزمة اللبنانية

TT

هناك مثل لبناني يقول: «القضية معقدة وبسبعة أطواق». ولم ينطبق هذا المثل على مسألة معقدة، كما ينطبق، اليوم، على الازمة، بل المحنة، السياسية والوطنية اللبنانية الراهنة.

فالطوق الاول الذي يكبل ايدي الساعين الى حلها هو: التنافس التاريخي بين «البيوتات» السياسية المارونية، قبل وبعد الاستقلال. فالعائلة التي يصبح احد أفرادها رئيسا، تتحول الى «عائلة رئاسية»، ويصبح هم اشقائه او ابنائه استعادة كرسي الرئاسة.

والطوق الثاني، هو ازدواجية السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية المسيحي ـ الماروني، ورئيس الحكومة، المسلم ـ السني، والتي لم يحلها اتفاق الطائف ودستوره، بل ضاعف ازدواجيتها. فرئيس الجمهورية، بموجب الدستور «يرأس مجلس الوزراء عندما يشاء» ولكن رئيس الحكومة هو، ايضا، رئيس مجلس الوزراء. ورئيس الجمهورية له حق رد قرارات الحكومة ولكن مجلس الوزراء يحق له نشرها، بدون توقيع رئيس الجمهورية.

والطوق الثالث، هو دور مجلس النواب في تأليف الحكومة، ودور رئيس مجلس النواب، المسلم ـ الشيعي، في الحكم. فالدستور الجديد فرض استشارات نيابية ملزمة على رئيس الجمهورية، قبل تكليفه الشخصية السنية التي تختارها اكثرية النواب لتأليف الحكومة.. بينما كان الدستور القديم يعطي رئيس الجمهورية حق تعيين الحكومة واختيار رئيس الحكومة من بين اعضائها.. وبالإضافة الى هذا التوسيع في صلاحيات المجلس النيابي، فقد ضيق الدستور على رئيس الجمهورية والحكومة حق حل مجلس النواب، وجعل مدة رئاسة المجلس (الشيعية) اربع سنوات (وكانت لمدة سنة واحدة من قبل)، فأدى كل ذلك الى قيام نظام برلماني اقرب الى ما يسمى في علم الدساتير «النظام المجلسي»، الذي عرفته الجمهورية الرابعة الفرنسية، منه الى النظام البرلماني الذي كانت تتبعه الجمهورية الفرنسية الثالثة، والذي كان لبنان قد نقله عنها وطبقه من عام 1926 الى عام 1990 .

الطوق الرابع، هو اتفاق الطائف، فقد حاول هذا الاتفاق الذي انبثق عنه الدستور اللبناني الجديد، التوفيق بين «المتناقضات» الوطنية والسياسية التي فجرت النزاعات السياسية، بعد الاستقلال وأدت الى الحرب اللبنانية الطويلة(1975-1989) ، كالجمع بين نهائية الكيان الوطني اللبناني وعروبته، ونقل بعض صلاحيات رئيس الجمهورية الى «مجلس الوزراء» لا الى رئيس الحكومة، وإقرار المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بصرف النظر عن حجم الطوائف، واهم من كل ذلك: اعتماد ما سمي «بالوفاق الوطني» قاعدة اساسية، مع الدستور، للحكم. ولكن ما لم يتحسب له واضعو اتفاق الطائف هو: ان مفهوم «الوفاق الوطني» قد يستخدم، يوما، لشل العمل بالدستور، كما حصل بعد انسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة الحالية. وان يصبح هناك تفسيران طائفيان لبعض مواد الدستور، لاسيما بالنسبة للمواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية. كما لم يلحظ اتفاق الطائف بدقة، دور وصلاحيات رئيس المجلس النيابي (الشيعي، ميثاقيا)، والذي استفاد من هذا «الغموض»، ليغلق باب مجلس النواب في وجه الحكومة والنواب، متى يشاء ان لم نقل لوضع مفتاح السلطة التشريعية في جيبه، معطلا عمل المؤسسات الحكومية.

اما الطوق الخامس فهو النزاعات الناشبة في الشرق الاوسط، ابتداء من النزاع العربي ـ الاسرائيلي مرورا بالنزاع بين محوري طهران ـ دمشق، وواشنطن ـ تل ابيب، وانتهاء بما يحدث في العراق وافغانستان وربما، غدا، في باكستان. فقد انعكست هذه النزاعات على الساحة اللبنانية مباشرة، وارتبط النزاع على الحكم في لبنان بها عضويا مباشرا، بل اصبح رهينة لها واسيرا لتطوراتها، لاسيما ان «اذرع» القوى والدول الاقليمية والكبرى، المتصارعة، ليست ممتدة فحسب الى داخل لبنان وتكتلاته السياسية واحزابه فحسب، بل باتت مشاركة مباشرة، بالمال والسلاح والدعم الاعلامي، للأفرقاء المتنازعين على الحكم في لبنان، وموجهة، الى حد بعيد، لها.

والطوق السادس فهو في النزاع او بالأحرى الصراع المفتوح بين قوى 14 آذار، والحكم السوري منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي زاده حدة وعنفا، انسحاب الجيش السوري من لبنان، على مضض، والقرارات الدولية المنددة بالميليشيات المسلحة (اي حزب الله)، وسلسلة الاغتيالات التي طالت وجوها اعلامية وسياسية معارضة لسوريا وسياستها في لبنان. وعلى الاخص اصرار قوى 14 آذار على قيام المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري. فانتصار هذه القوى في معركة رئاسة الجمهورية تعتبره سوريا ضربة مباشرة جديدة لها في لبنان، في الوقت الذي تعتبر قوى 14 آذار ان وصول «رئيس» سوري الهوى، الى قصر بعبدا، عودة لسوريا ولنظامها الامني الى لبنان والإطاحة بكل ما حصل عليه لبنان من سيادة وحرية ودعم عربي ودولي وفي طليعته: قرارات مجلس الامن.

وأما الطوق السابع، فهو تداخل وتماهي وتزاوج المصالح والحسابات والشعارات الطائفية والمذهبية، بالحسابات والحجج والمعطيات السياسية، بين قوى 14 آذار و 8 آذار. وهنا، ايضا، يتحمل اتفاق الطائف القسط الاكبر من المسؤولية، اذ انه «عقد» المسألة الطائفية في لبنان، بدلا من ان يحلها. فالجنرال عون يبرر «حقه» في رئاسة الجمهورية (المتفق ميثاقيا على انها «من حصة» الموارنة)، بكونه نال وحزبه اكثرية الاصوات المارونية في الانتخابات الاخيرة.. ويستشهد بحق سعد الحريري وجنبلاط وحزب الله، بتمثيل السنة والدروز والشيعة في الحكم، ليبرر حقه بتمثيل الموارنة.

ولكن السؤال الراهن هو: اي دور لرئيس الجمهورية في اتفاق الطائف والدستور اللبناني؟ انه ليس الدور الذي للرئيس الأميركي او الفرنسي مثلا، وان كان اكبر من دور رئيس دولة المانيا او النمسا. بل ما هو الدور المطلوب، اليوم، من رئيس الجمهورية اللبنانية؟ هل هو دور الرئيس القوي «البطاش» الذي يهيمن على الحكم؟ ام هو دور الرئيس الحكيم والمعتدل والموفق بين الطوائف والأحزاب؟ ثم ما هي معايير او مقاييس «المصلحة المسيحية» او «المصلحة الاسلامية»، في المفهوم التاريخي لها، بعد ان انقسم المسلمون مذهبيا ـ سياسيا ؟ وبعد ان عقد الجنرال عون حلفه مع حزب الله ؟

نعم، لا بأس بل لا بد من ان تكون للرئيس الماروني للجمهورية حيثية وصفة تمثيلية في طائفته، ولكن اهم من ذلك هو ان يكون راغبا وقادرا على الارتفاع فوق المصلحة الطائفية الضيقة او الآنية، والعمل على التوفيق بينها وبين مصالح الطوائف الاخرى.

وفي تاريخ لبنان، اكثر من مثل على رؤساء للجمهورية، انهوا ولايتهم وهم في صفوف القوى السياسية التي عارضت انتخابهم، لا في صفوف من اتى بهم رؤساء.

ان المحنة السياسية والوطنية التي يجتازها لبنان، تعود جذورها العميقة الى تكوين لبنان البشري المؤلف من ثماني عشرة طائفة ومذهب ديني، كما تعود الى النظام الطائفي (الذي تحول الى «دستور ثان» يتمازج او يطغي على الدستور الديموقراطي اللبناني المكتوب). كما يعود الى رواسب الحرب الاهلية التي لم تمح من الواقع السياسي ومن نفوس وعقول اللبنانيين. ولكن ما اشعل النار في هذه الجذور هو النزاعات الجديدة التي اتخذت منطقة الشرق الاوسط مجالا لها، بعد 11 سبتمبر2001، اي بعد ان اعلنت واشنطن ـ والغرب ـ الحرب على الارهاب، وانقسمت الدول العربية والاسلامية بين مشارك في هذه الحرب ومعارض لها.

ان ما سيخرج عن مؤتمر أنابوليس، سيكون له تأثير مباشر اكيد على الازمة اللبنانية. تأثير ايجابي، اذا انتهى المؤتمر باتفاق ما على مواصلة عملية السلام، ولا سيما فيما يتعلق بالجولان السوري، وسلبي، اذا انتهى كما انتهى لقاء عرفات وباراك في كامب ديفيد.

ولكن في كلا الحالين، لن يكون التأثير فوريا او مباشرا على الازمة اللبنانية، بل قد يستغرق مفعوله اشهرا، ان لم يكن اكثر.

ويبقى السؤال: هل يستطيع الوضع في لبنان تحمل، فراغ رئاسة الجمهورية، اشهرا؟

كلا، يجيب الجميع. ولكن هل التوافق بين قوى 18 آذار و14آذار سهل؟ او ممكن، على ضوء المواقف الاخيرة؟ الجواب هنا ايضا بالنفي. حتى لو توفرت مواصفات الرئيس الوفاقي في ثلاث او اربع شخصيات سياسية او عسكرية، لا يعتبر انتخابها، انتصارا لهذا الفريق او هزيمة للفريق الآخر، فان عقبات اخرى سوف تنتصب في طريق انتخابها: عقبة اقناع المرشحين للرئاسة والزعماء والسياسيين والنواب، وسوريا، كل الدول المتداخلة في الشأن اللبناني، بالموافقة عليه. واهم من ذلك، اقناعهم بمساعدة الرئيس العتيد على وضع برنامج لتحقيق شروط الوفاق الوطني، ولتدعيمه. ولكن تلك مسألة اخرى.