سودانان اثنان.. وشقيقان لا يتطايقان

TT

ما هو طبيعي في العلاقات بين الدول أن الرجل الأول في الدولة هو الذي يقوم بزيارة رسمية الى دولة من الدول. وان رئيس تلك الدولة يرد الزيارة له. لكن الذي يحدث في السودان هو أن كبرى دول العالم تتعامل مع الرجل الاول كما لو انه غير موجود وتتعامل مع نائبه وكما لو انه هو الذي يخصها ويعنيها.

كذلك ان الطبيعي عندما يكون الشخص هو نائب الرئيس في بلده أن يمثِّل سياسة البلد ورئيس البلد ومصالح البلد. لكن الذي يحدث هو نقيض ما نقوله.

زيادة في التوضيح نشير الى انه لمجرد انتهاء شهر عسل اتفاق السلام بين الجنوب المتمرد والشمال الحاكم بعد شهور مرارة الاقتتال والاستنزاف، حدث على ما يبدو نوع من الحنين الجنوبي الى الزمن الذي مضى متلازماً مع صحوة شمالية ازاء الذي فعله اهل الحكم متمثِّلاً بإبرام اتفاق مع التمرد انتهى الى انه اتفاق الند للند مما يعني ان السودان عبارة عن سودانينْ وليس سوداناً واحداً.

تم تغييب جون قرنق الزعيم الأقوى سياسياً وعسكرياً في الجنوب يوم 30ـ7ـ2005 على نحو تغييب ياسر عرفات الزعيم الأقوى في الصف الفلسطيني مع اختلاف اسلوب التغييب. ومع الزعامة الجنوبية الجديدة في شخص سلفا كير الذي كما قرنق من قبل حظي بموجب الأمر الواقع التفاوضي بمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية وعلى حساب النائب الاول القوي الشأن علي عثمان محمد طه، بدأت ترتسم في الأفق ملامح استعداد لكي يرمي احد الشريكين على الشريك الآخر يمين طلاق من النوع المخفف كي لا يتساقط البيت الموحَّد الذي لم يكتمل في الاصل ترميمه على رؤوس الشريكين. ومن مظاهر ما نشير اليه ان الشريك الجنوبي كان يتخذ الموقف المضاد للشريك الشمالي من دون ان يراعي هيبة هذا الشريك كرمز للحكم في السودان. وحول ذلك هنالك اكثر من واقعة يتعلق معظمها بالموقف من دارفور والقوات الدولية وقضايا اخرى.

وكان لافتاً للانتباه ومثيراً للاستغراب ان سلفا كير يزور واشنطن كزعيم جنوبي وليس كنائب اول لرئيس الجمهورية، لكنه مع المسؤولين الاميركان يسجل المواقف التي ينظرون اليها على انها وجهة نظر النائب الاول لرئيس الجمهورية. كذلك كان مثيراً للدهشة ان الزعيم الجنوبي يتبنى موقف الادارة الاميركية من قضايا وليس موقف الحكومة السودانية كما يصدر في بيان رسمي او في صيغة تصريح يدلي به احد المسؤولين في النظام.

من الطبيعي في ضوء هذا التناقض ان تتفجر الازمة سياسياً ويصدر عن الشريك الجنوبي ما اعتبرناه يمين الطلاق المخفف متمثلاً في اعتكاف وزراء الجنوب ووقوف الزعيم الجنوبي خطيباً في جوبا ضد الزعيم الشمالي في الخرطوم، ثم بعدما يرتفع منسوب الاحتقان توضع نقطتا الخلاف الأكثر تعقيداً على الطاولة وهما النفط والحدود مما يعني ان الجنوبي لا يطيق العيش مع شقيقه الشمالي وأنه يريد تأمين ترسيم الحدود وتوثيق العائد النفطي لكي يستقل بنفسه، كما حال أكراد العراق أو نواياهم، وعلى قاعدة ان الجنوبي جنوبي والشمالي شمالي ولا يتطايقان.

الآن يتأمل سلفا كير في ضوء زيارة رسمية الى واشنطن لم يمثّل فيها رئيسه عمر البشير، في ما آلت اليه احوال «الانقاذي» الباكستاني برويز مشرَّف ويرى ان ما يحدث في باكستان سيحدث عاجلاً أم آجلاً في السودان وان من الأفضل والأكسب له هو أن يستعد لمواجهة وضع طارئ قد يكون بداية التناثر لـ«القارة السودانية». وهو من اجل ذلك نراه ترك العنان للسانه وهو يتنقل في محادثاته بين مسؤول اميركي وآخر يتحدث عن هشاشة الوضع في الحكم الذي هو شريك فيه للمرحلة الانتقالية ويدلي بتصريحات يبدو قائلها كما لو انه زعيم حزب معارض وليس شريكاً في صيغة تم استيلادها على طريقة استيلاد الرئيس الأسبق جعفر نميري للقوانين الاسلامية. وكما افترض هذا الاخير ان وضع القوانين موضع التطبيق كفيلة بسحب البساط من تحت أقدام المعارضة الاسلامية التوجه وبذلك يضمن البقاء والاستقرار لكن ذلك لم يحدث وجرى اسقاط النظام على اهون السبل، فإن حكم «الانقاذ» افترض ان مفتاح الدخول الى القلب الاميركي هو بإنجاز اتفاق مع الجنوب المتمرد لا يخطر في بال احد أن من الممكن انجازه. لكن الاستيلاد المتعجل احدث حالة فقدان توازُن في الفعل بعد القول أو العكس من جانب الطرفين مع نسبة اعلى من جانب الشريك الجنوبي الضامن رضى الادارة الاميركية عليه ورعايتها له. وربما بسبب هذا الشعور استوقَفَنا قول سيلفا كير يوم الخميس 8ـ11ـ2007 وهو ما زال في المضافة الاميركية وقبل لقاء له مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ان شريكه الرئيس عمر البشير «يعتقد أنه يقدر على شراء الجنوبيين بالمناصب وبالأموال ونحن نرفض ذلك...». ولا ندري لماذا ترك الزعيم الجنوبي بلسانه قول ذلك الى حين حضوره الى واشنطن، تعليقاً على واقعة شهدها القصر الجمهوري في الخرطوم. وخلاصة الواقعة ان الرئيس عمر البشير دعا خلال اكتوبر (تشرين الاول) الى اجتماع طارئ في القصر الجمهوري لمعالجة موضوع انسحاب الوزراء الجنوبيين وأرسل طائرة خاصة الى جوبا لكي تنقله الى الخرطوم ومن المطار مباشرة الى القصر من دون السماح له بالذهاب الى منزله مضيفاً انه عندما دخل القصر وجد الرئيس البشير ووزراء جنوبيين جدداً اختارهم البشير وطلب من سلفا كير حضور اداء قَسَم الوزراء الجدد لكن الاخير اعتبر أن الخلاف اكبر من مسألة استبدال وزراء يتم تعيينهم بدل الذين استقالوا احتجاجاً وأن استدعاءه بالشكل الذي حدث هو نوع من الإهانة والاحتقار له ولمنصبه.

لم يكتف سلفا كير بالرواية المشار اليها والتي تشكل في حد ذاتها حيثية لبعض باغضي «حُكم الانقاذ» داخل الادارة البوشية من اجل رفع نسبة الحدة في موقفهم من الرئيس البشير، وإنما اعاد فتح الملف الذي افترض السودانيون أنه قد طُوي بعد التوصل الى اتفاق السلام وذلك من خلال اتهام اهل «الإنقاذ» اي «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم بأنه «يريد هوية اسلامية عربية للسودان لكننا نريد هويات متعددة دينية وعرقية وإثنية كما انه ليس فقط تباطأ في تنفيذ اتفاق السلام بل توقَّف تماماً عن تنفيذه...».

هذا الكلام وغيره كثير يقال للاميركان في بلدهم وبالمضمون الذي يرضيهم ليس حالة صحية ولا هو الطبع الديمقراطي السوداني يفرض ذلك، وإنما هو مؤشر الى ان في المشهد السوداني ملامح مشروع مؤتمر وطني قيد النمو يختلف عن «مؤتمر البشير» و«مؤتمر الترابي» ويكون شمالياً ـ جنوبياً ـ دارفورياً ومفتوحاً أمام أطياف سودانية أخرى سيكون من الصعب على «حكم الانقاذ» مواجهتها بالحسنى وسيكون مخاطراً اذا هو واجهها على طريقة جنرال باكستان برويز مشرَّف... وعلى هذا الأساس تبدو المرحلة الانتقالية أمام احتمال الانتقال من جديد الى ما كانت عليه الحال على مدى 21 سنة قبل 9 يناير 2005، أو الانتقال الى ما يجب ان تصبح عليه بعد ثلاث سنوات بموجب اتفاق السلام. والله أعلم.