تصدير البطالة

TT

يظهر ان التكنولوجيا الحديثة اخذت تقتل نفسها. فالكاميرا الرقمية التي استعملها تستطيع ان تقوم بشتى المهمات العجيبة. قضيت عدة ايام في تعلم اسرار وازرار كل ذلك. ولكنني في المواقف الحرجة السريعة لم اوفق قط في تصوير الموقف بسبب كل هذه الازرار والخطوات التي عليَّ ان اتذكرها واقوم بها. الحقيقة هي انني لا استعمل الآن هذه الآلة الذكية البارعة الا للقطات البسيطة التقليدية. يعني ذلك انني دفعت مبلغا عاليا وتحملت بآلة ثقيلة اكثر عرضة للعطل وأضعت وقتا ثمينا في فهمها بدون سبب او مبرر. اشعر بالندم على عدم شراء آلة بسيطة رخيصة خفيفة.

ما رويته اعلاه يجسم تجارب سائر المواطنين مع التكنولوجيا الحديثة. الغرض من وراء كل هذه المستحدثات المعقدة هو ليس راحة الجمهور او زيادة قدراتهم وانما زيادة ارباح الشركات برفع اسعار منتجاتها واغراء المستهلك بترك معداته القديمة وشراء البدائل الجديدة. اتحدى أي مستهلك بسيط مثلي ان يميز بين الموسيقى المسجلة على الكاسيت والمسجلة على السي دي. ولكننا رحنا جميعا نستبدل اجهزة الكاسيت بأجهزة السي دي. لماذا؟ لأن الموزعين واذنابهم في الصحافة يقولون لنا ذلك.

ينطوي هذا الموضوع على خطورة اقتصادية تستنزف العالم الثالث وتشوه حياته التقليدية. حيثما يحل المسافر الآن في الفنادق الراقية يجد امامه شتى المعدات الفنية التي تقوم له بشتى المهمات التي كان يقوم بها الخدم وموظف الاستقبال في السابق، كالتنبيه صباحا وتسلم الرسائل والمكالمات وترك الرسائل والاتصال تلفونيا والحصول على معلومات وارقام تلفونات ونحو ذلك. يقضي المسافر عدة ساعات او ايام حتى يتعلم استعمال هذه الاجهزة ولكنه لا ينتقل الى فندق آخر حتى يجد امامه اجهزة وتكنولوجيا مختلفة عليه ان يتعلمها وينسى ما تعلمه في الفندق السابق.

طور الغربيون هذه المعدات لحاجاتهم الخاصة وعلى رأسها مشاكل العمال واجورهم العالية. الآلة عندهم ارخص من الانسان، ولكن الانسان في العالم الثالث ارخص من الآلة. وبانتاجهم لهذه الآلات يؤمنون اعمالا لعمالهم وفنييهم وعلمائهم. يصنعون هذه المعدات ويبيعونها لنا في دولنا التي تعاني من البطالة. نشتريها منهم على اعتبارها دليلا على التقدم والعصرنة. فنقوم بطرد خدمنا وموظفينا ونستبدلهم بهذه الآلات ونزيد بذلك معدلات البطالة عندنا. يصدق مثل ذلك على الخدمات البيتية ايضا حيث رحنا نستعمل المكانس والغسالات الكهربائية بدلا من الخدامات والغسالات التقليديات البائسات. وبهذا يكون الغربيون قد صدروا بطالتهم الينا.

لاحظت في القاهرة استعمال اجهزة غسل السيارات الميكانيكية الالكترونية. اعلمني سائق التاكسي انهم يتقاضون ستة جنيهات على غسل السيارة الواحدة. وكل ذلك امام المقاهي المليئة بالشباب العاطلين. ستة جنيهات لربع ساعة من العمل وسطل من الماء لا بد ان يكون شيئا يحلم به أي واحد من ملايين العاطلين في مصر. لماذا تقوم دولة تعاني من عجز في حسابها التجاري ونقص في العملة الاجنبية باستيراد هذه المعدات التي تستطيع شغيلتها العاطلة ان تقوم مقامها وبشكل افضل وارخص؟.

ولكن استخدام هذه المعدات يزيد من وعي الجمهور بالتكنولوجيا ويرفع من مستواهم العلمي والعملي نتيجة تركيب هذه المعدات واستعمالها وصيانتها واصلاحها. غير انه من ناحية اخرى يقتل نمط الحياة الانسانية التقليدية عندنا. فنحن، والواقع والبشرية جمعاء، نستمتع بالعلاقة الانسانية، بالمحادثة والكلام الذي يجعلنا نفضل الدردشة مع موظفة الاستقبال والاستعلامات، صباح الخير يا قمورة وكيفك اليوم، ومن أي بلد أنت، ثم نكلفها بما لدينا من طلبات بدلا من التعامل مع آلة صماء بين اربعة جدران. الواقع ان ذلك ما يجري في الفنادق والمؤسسات الارستقراطية الكبرى في الغرب، حيث يعتزون بما يسمونه التعامل الشخصي والعمل باليد. لن تراهم يغسلون سيارة الرولز رويز بالماكينة.

طالما وجه اللوم للامبريالية الغربية في قيامها بقتل الصناعات والحرف التقليدية في العالم الثالث، كصناعة النسيج في الهند والخزفيات في المغرب العربي والسجاد في ايران وصيد اللؤلؤ في الخليج بانتاج بدائل لها ارخص منها. وبهذه الطريقة افقروا الشغيلة الأفروآسيوية وحولوا جزءاً من كسبهم على حسابها الى الشغيلة الاوربية وحسنوا احوالها المعيشية بما ضمن للرأسمالية كسبها الى جانبها وتحييدها وابعادها عن الثورة. هكذا استطاعوا نقل البطالة التي كانت تهدد مجتمعاتهم الى مجتمعاتنا الشرقية. هذا شيء لم يمكن تفاديه بالنسبة لشعوب العالم الثالث وفشلت فيه معظم محاولات الحماية الوطنية. ولكن الرأسمالية الغربية تقوم الآن بعملية اخبث من حيث نقل البطالة باحلال منتجاتهم الصناعية لا محل منتجاتنا المحلية وانما محل رجالنا ونسائنا. اصبحوا يحلون الآلة محل الروح. وهذه حالة على خلاف الحالة المشار اليها آنفا، حالة اخرى نستطيع في الواقع تفاديها. فكما سبق ذكره لا حاجة بنا لشراء هذه المعدات التي يستطيع شبابنا القيام بها بتكلفة اقل وكفاءة اكبر وانسانية افضل، ونوفر بذلك الكثير من العملة الاجنبية.

ما يصدق على المعدات يصدق على الكثير من البضائع والخدمات. لا ادري كم من الملايين تنفق الدول العربية على استيراد الفيتامينات وعقاقير الزكام والسعال والانفلونزا. لا فائدة هناك من معظم هذه المستحضرات. كل ما يحتاجه الانسان للانفلونزا والرشح هو الاسبرين او الباراستيمول (الذي يصنع محليا) لتخفيف الصداع والوجع وتخفيض الحرارة. معظم العقاقير الاخرى مخدرات ضررها اكثر من نفعها في كبت الاعراض الطبيعية مؤقتا وبالتالي تضليل المصاب وتعطيل قوته المناعية في محاربة الفايروس. يقال مثل ذلك عن حبوب الفيتامينات التي لا تفيد الانسان الصحيح وقد تؤذيه. كل ما نحتاجه هو التغذية الصحيحة التي تقوم في اغلب الاحوال على الاطعمة التقليدية الرخيصة والبسيطة والبدائية. كثير من الادوية والمواد التي يستسخف بها الاطباء في الغرب وقلما اجدها في صيدليات لندن، اجدها في كل البيوت والصيدليات في عالمنا العربي. لمعظم هذه المستحضرات الغربية بدائل محلية تقليدية لا تقل عنها شعوذة او فائدة.

ذكرت اولا ان التكنولوجيا الحديثة اخذت تقتل نفسها بافراطها في التعقيد والتنويع. ولكنها بالنسبة للغرب مكنتهم من تصدير ما يهددهم من البطالة والأزمات الاقتصادية الى دول العالم الثالث. يجري كل ذلك طبعا تحت مظلة العولمة وحرية التجارة. الموضوع لا يحتاج الى تدخل من الحكومة بقدر ما يحتاج الى حملة من التنوير والتثقيف وتنمية روح الالتزام بمصالح الامة والتعاطف مع معاناة العاطلين والمحتاجين.