مشروع تأسيس أمريكا فكرة صهيونية

TT

ان المشروع الصهيوني هو الذي اسس امريكا، كذلك كتب الصحافي الاسرائيلي وداعية السلام البارز اوري افنيري، حيث ان المهاجرين الاوائل، او الاباء المؤسسين، الذين اسسوا المجتمع الامريكي آمنوا بالتوراة وتحدثوا بالعبرية واطلقوا على انفسهم اسماء توراتية وتخيلوا قارة الهنود الحمر «اسرائيل الجديدة»، بل لقبوا ما ستعرف بأمريكا «كنعان الجديدة» وبرروا ابادة الهنود الحمر بخرافة العملاقة!.

ويرى افنيري ان اوائل طلائع المستوطنين الصهاينة في فلسطين كانوا يشبهون في نظر انفسهم المستوطنين البيض في امريكا وان الفلسطينيين يشبهون الهنود ويمضي في تحليله المقارن ليتوقف عند الاشارة الى كتاب «عيسى قادم» الذي نشر في اواخر القرن التاسع عشر ولاقى انتشارا واسعا، وكانت فكرته تدور حول تشريط قدوم المسيح باقامة دولة يهودية. وقبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول بتسع سنوات زار مليونير مسيحي متشدد (اصولي) فلسطين (افنيري يصر على تسمية اسرائيل قبل قيام اسرائيل بنحو قرنين!!) وهناك خطط وروّج لقيام اسرائيل بحسبانها مقدمة لقدوم المسيح.

وبعده بثلاث سنوات قدمت 413 شخصية امريكية هامة: محررو صحف، حكام ولايات، نواب، قضاة، رجال اعمال، عريضة الى الرئيس الامريكي ووزير خارجيته طالبوه فيها بتسليم فلسطين (افنيري يعود الى وعيه ويسمي البلاد باسمها) ويختم ان بوش الابن يمثل هذه الاساطير.

وهذا صحيح، فبوش الابن ابن الاصولية المسيحية اليمينية التي تضرب جذورها في اصول تأسيس امريكا بحسبانها «أمة تحت رعاية الرب» و«المدينة المشعة على التلال» على حد التعبير المسيحاني العزيز على ريغان فبوش الاب فبوش الابن!.

ان «العالم الجديد»، حسب تسمية الانسان الابيض المركزي العنصري للقارة الامريكية، لم تكن عالما جديدا، فكما هو معروف، كان لها شعبها الاصلي بحضارته وثقافته وديانته، لكن البيض انتهكوها واستملكوها، طبيعة وروحا، ارضا وشعبا، بالسلب والنهب والقتل الأبادي.

وكل ذلك جرى باسم الرب والمدنية والتقدم!!.

وباسم الرب، تحولت القارة التي صار اسمها امريكا الى موطن لمعتقدات واشكال وتحولات دينية طائفية متعددة تتكاثر بتكاثر المستعمرات. واليوم، يوجد مئات النحل والمجموعات الدينية في الولايات المتحدة الامريكية!.

ومن المعروف ان خلطة بروتستانتية من طوائف وجماعات متعددة تمزج المسيحية بالصهيونية هي التي تمثل ضمنيا المفهوم الديني للحضارة الامريكية، حيث يمثل اتباع البروتستانتية حوالي 90 مليون امريكي! وعند فحص التركيبة التاريخية للافكار الدينية التي استقرت في القارة، يبان خليط من المعتقدات والمذاهب التي تعكس خليط جماعات المهاجرين الذين تدفقوا على «العالم الجديد» من العالم القديم!.

الكاثوليكية جاءت مع كولمبس في ذروة هولستها في الالتفاف على الاسلام والقضاء عليه، فهدف كولمبس لم يكن اكتشاف امريكا وانما الوصول الى الهند، وعندما عرف انه «اكتشف امريكا طوّر استراتيجية تطويق الاسلام من جهة الهند، الى فكرة استغلال ذهب القارة الجديدة في توفير الثروة اللازمة للقضاء على الاسلام!.

بعد عهد الغزو الاسباني الكاثوليكي، أي في عهد الهيمنة الانجليزية في بداية القرن السابع عشر تدفقت جماعات البروتستانت والانجليكان والبيوريتانت (المتطهرين) على التي بنت المستعمرات الاستيطانية متوسلة خطابا مثاليا طوبويا كما هو كل خطاب استعماري استيطاني ذلك الخطاب الذي تغنى بتأسيس «المدينة فوق التلال ليشاهدها العالم اجمع»! وطائفة المتطهرين بالذات المتحدرة من البروتستانتية كانت مهووسة بفكرة الامة الطاهرة تحت رعاية الرب مباشرة لقيادة البشرية خلال ميلينية (ألفية) سعيدة، وكانت شديدة العداء للكاثوليكية بسبب تاريخ اضطهادهم في اوروبا.

لذلك فإن اسباب هجراتهم الى «العالم الجديد» تتجاوز مجرد الحاجة الى الحرية الدينية والاستقرار الاقتصادي الى تأسيس المشروع الديني في اقامة «مملكة المسيح» على الارض كرد وجودي على الهيمنة الكاثوليكية الكونية! كانت فكرتهم في العلاقة مع الرب والطبيعة تمتح من التوراة، بل انهم منحوا «الحكاية الكبرى» لمشروعهم الكولونيالي الاستيطاني اسم «الصهيونية الامريكية» قبل ان تظهر الصهيونية الاسرائيلية بقرون! وهم مثل الصهاينة اليهود اليوم اعتبروا «العالم الجديد» ارض ميعاد ليسيطروا عليها، ويعقدوا مع الرب ميثاقا مقدسا ينتخبهم باسمه الرب طائفة مختارة مطهرة مصطفاة! ان الثقافة البروتستانتية الممزوجة بالتوراتية كانت هي المصدر للثقافة الدينية الامريكية المتعددة لمرونتها وليبراليتها في ترك الحرية للناس في الانتماء الى ما يشاءون من الكنائس والطوائف المتولدة!، كما انها تلك الثقافة هي التي كتبت مناهج التعليم المدرسية لامريكا المستقلة عن الانجليز وكنيستهم وربهم!! وفي منتصف القرن الثامن عشر انتشرت بقوة عقيدة طائفة الاحيائية كشكل من اشكال الاصولية المسيحية المتشددة في الطهرانية داخل الثقافة البروتستانتية ولم تلجم إلا بظهور حركة التنوير المتأثرة بمصدرها الاوروبي، لكن المتطبعة بالظروف الامريكية الخاصة بحيث وان فصل الدين من الدولة فإنه بقي على قوته في مؤسسات المجتمع. وكان لحركة التنوير النقدية ممارسة واضحة في نقد البروتستانتية واشكالها المتعددة المخلوطة بافكار الخرافات التوارتية من قبيل «اله بني اسرائيل» و«يسوع اليهودي» وقصص التماثل مع التوراة بين «الشعب المختار» اليهودي في اسرائيل القديمة و«الشعب المختار» المسيحي في امريكا الحديثة، بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية!! لكن تلك الحركة التنويرية التي كتبت الدستور الامريكي العلماني ورسخت التعددية الدينية والثقافية لم تمنع تكتل النفوذ الديني الخفي في تسيير السياسة الامريكية العامة.

لقد استمرت «الصهيونية الامريكية» في ارتباطها الروحي باليهودية والذي سيترجم الى ولاء سياسي بإسرائيل!! ويكتب الباحث مارتن مارتي عن الثقافة الامريكية الدينية المهيمنة والمؤثرة في مخيال الامريكيين البيض المسيحيين المحافظين، الاصوليين الانجيليين على الخصوص من جهة ان الايمان بـ«المجيء الثاني للمسيح سيسبق العصر الألفي السعيد (وبالتالي) يميلون الى كتابة الاسس الدينية في وصياتهم حتى تعطي وعظا لعدة اجيال او لتدعم ميزانيات الدفاع لابقاء امريكا قوية لازمان طويلة».

وتحقق مجيء المسيح الثاني وتعمم السعادة الالفية مشروط بقيام اسرائيل في ثقافة الاسرائيليات الامريكية او ما يعرف بـ«الصهيونية الامريكية». وقد كان الرئيس كلينتون صهيونيا واضحا الى حد التبجح، ومعروف خطابه امام الكنيست الاسرائيلي في السابع والعشرين من اكتوبر 1994 عندما تحدث بعاطفة جياشة عن الرباط العقائدي ـ السياسي المقدس الذي يربط امريكا بإسرائيل، قال: «عندما كانت اسرائيل تكافح للبقاء كنا نبتهج لانتصاراتكم ونشاطركم مآسيكم، وفي السنوات التي تلت اقامة اسرائيل اعجب الامريكيون من خلال كل معتقد ديني بكم وساندوكم.. ان بقاء اسرائيل هام ليس لمصالحنا فحسب، بل لكل القيم العزيزة علينا..».

وقال عن زيارته لاسرائيل قبل ان يصبح رئيسا: «وذلك قبل 13 عاما (العام 1981) بصحبة زوجتي وراعي الكنيسة المعمدانية (مزيج من اليهودية ـ المسيحية، راعيها يهودي في الاصل) التي اتبعها، وقد جئنا (ثلاثتهم) في بعثة دينية وكنت وقتها خارج حكم الولاية (يقصد ولاية اركنساو) ولم يكن يخطر على بال احد اني سأتي الى هنا سوى ربما والدتي فقط وليس أي انسان آخر. وقمنا بزيارة الاماكن المقدسة وعايشت اثناء هذه البعثة ثانية تاريخ الانجيل واسفاركم وكذلك تاريخي ثم نشأت علاقة بيني وبين راعي الكنيسة الذي اشرف على تلك البعثة.. وبعدما اشتد المرض على راعي الكنيسة قمت بزيارته وقلت له اعتقد انني سأصبح في يوم ما رئيسا للولايات المتحدة الامريكية، فقال لي بصراحة اشد مما فعل رابين: انك اذا تخليت عن اسرائيل فلن يغفر الله لك ذلك ابدا، وان مشيئة الرب انه اختار اسرائيل ارضا لنا وان مشيئته ان اسرائيل ستبقى الى الابد..».

انتهى كلام راعي كنيسة كلينتون الذي ختم خطابه امام نواب الكنيست: «ينبغي ان تدركوا ان مسيرتكم هي مسيرتنا وان امريكا ستبقى الى جانبكم الآن والى الابد».

... ويبقى العرب بدون فهم معادلة ان اسرائيل التي قامت بتصريح بريطاني (وعد بلفور) هي مشروع كولونيالي غربي ـ امريكي وان امريكا مشروع صهيوني، وحل هذه المعادلة التي قد تبدو مغلقة يتأتى من خلال موقف عربي موحد يسّبق الكرامة على الدولار والوطن على البطن، ويُخيّر الغرب (اوروبا ـ امريكا) بين خضوعهم للابتزاز الصهيوني الشايلوكي وبين مصالحهم الهائلة عند العرب، كما فعلت الصين (اطلبوا الكرامة لو في الصين) عندما خيّرت العالم على نحو واضح صارم بين العلاقة مع الصين العظيمة او تايوان العميلة التي هي في الاساس مشروع كولونيالي Made in USA.

[email protected]