تجليات من عوالم ديستويفسكي

TT

إن كنت قد قرأت رواية المقامر لديستويفسكي، ولم تذهب إلى الكازينو فأنت بطل، لأن في تلك الرواية الشيقة كل دلائل الإقناع لتعلم المقامرة، وفيها ايضا كل الحجج التي تدفعك للإقلاع بعد ان تتعلم، لكن هل تعرف من تعلم وأقلع؟.. بمن فيهم ذلك الكاتب الكبير الذي ظل القمار لطخة حياته الكبرى، والعار الذي لم يستطع منه ولا من نتائجه الماحقة خلاصا.

وخارج إطار الكازينوهات ومآسيها وأدبياتها وأفلامها، هل لاحظت ان لا شيء يشبه الحب غير المقامرة، وما من شخص يماثل المقامر غير العاشق؟

ونقطة التشابه ليست في الرهان على المجهول وحده، ولا في تحدي السلطة الاجتماعية وسلم القيم، إنما في هشاشة نقطة التمركز، فالعاشق كالمقامر قد يرتفع حظه وتزيد آماله أو تنخفض في كل لحظة، وقد يكتئب، وينحدر نفسياً إلى الحضيض بتأثير ظروف لا يد له فيها ولا سلطة عنده لتكثيفها، أو إيقافها، ولأمر لا يخفى على اللبيب يقترب منبع الحظ من مصب الهوى.

ومع المعرفة الكاملة بأن هذه المقارنات لا تسر الخاطر سنزيد في الطنبور نغماً، وفي نقاط التشابه واحدة جديدة ـ لعلها الأخطر ـ فالعاشق الحقيقي كالمقامر المحترف، يعرف تقريباً توقيت دخوله إلى عالم الحب، لكنه يعجز دائماً عن الانسحاب والتوقف في الوقت المناسب، فالطرفان لا يبحثان عن الخسارة «ليمسجا مازوشيتهما» ويبتهجا، لكنهما يدفنان عادة التطلع إلى النهايات القصوى، فإما حياة تسر الحبيب، وإما خيبة تخجل منها الخيبات، ويستحي من هشيمها صدأ المرايا.

إن الكثيرين من المقامرين يستطيعون في لحظات معينة الخروج مظفرين، لكنهم نادراً ما يفعلون ذلك إلا حين يفقدون حس المغامرة، وان الكثيرين من العشاق يستطيعون تخفيف المعاناة بالتوقف عند اللحظات الأقل إيلاماً، التي تتيح لهم الخروج بما يسميه الواقعيون أخف الخسائر، لكن العشاق الحقيقيين لا يفعلونها، فكأنهم منذورون للتراجيديا وقلق النهايات المشدودة على حبال الممكن والمستحيل، فإما سعادة تخرج الشمس من مخبئها وخدرها منتصف الليل لتشارك فرحة الحب تحت ضوء الشمس وضوء القمر، وإلا ذلك القهر العظيم، والفشل المدوي الذي «تنقد منه الحيازيم» على حد تعبير الشاعر ذي الرمة في لحظة تذكر أعقبت الكارثة:

تقتادني زفرات حين أذكرها تكاد تنقد منهن الحيازيم ومشكلة ديستويفسكي انه كان عاشقاً ومقامراً في آن، يعني انه من ذلك النوع الذي قد تسخر منه بوصفه «جامع المجد من طرفيه» وفوقهما حرفة الكتابة التي كان يأمل أن تزوده بما ينفعه في الكازينوهات ويصد عنه كيد الدائنين، فخرج من الهدفين صفر اليدين، ومات كمعظم الكتاب الكبار مديناً ومفلساً، وفي خزائنه بدل «البنكنوت» مخطوطات روايات وقصص ومقالات عشعش عليها العنكبوت بعد ان وضع الكاتب فيها، وفي الكازينوهات، خلاصة عمره.

ان الدفاع الحقيقي عن ديستويفسكي، أتى من مواطنه تشيخوف الذي قال مداورة لمن انتقد سلوك أدباء جيله «أنا فنان ولست داعية»، وفي هذه الجملة المختصرة تكمن حكم عديدة توضح الفرق بين عمل المعلم العادي، والمعلم الأدبي والفني، فالأول صاحب رسالة واضحة ومباشرة، والثاني يعلم بأسلوب غير مباشر عن طريقة المتعة التي تُستقطر مما يكتب، ويخط ويطبع.

وان شئت ان تستفيد من الأدباء والفنانين فعليك بما كتبوا ورسموا لا بما فعلوا، فسلوك بعضهم ليس فوق الشبهات وتلك قضية تخصهم وحدهم، فحياتهم لهم ولنا منهم رحيق العقل والمخيلة.