القضية بين توعُّك يبدأ... وتوعُّك يتوارى

TT

يوم الاثنين 18 يونيو (حزيران) 2001 انهت لجنة المتابعة العربية اجتماعاً لها في العاصمة الاردنية (عمان) التي كانت ما زالت تعيش حالة التوعُّك السياسي الناشئة عن اعتماد العناد في وجه المباغتة، مع ان من شأن اسقاط التحدي عند حدوث مثل هذا الأمر تفادي الازمات الكبرى وتقليص تأثير التوعُّك السياسي الذي اشرنا اليه.

وقبل الحديث عن اعمال تلك اللجنة واعمال الدورة الرابعة والثلاثين لوزراء الإعلام العرب التي انعقدت في اليوم التالي في العاصمة اللبنانية (بيروت) التي بدأت تعيش حالة انفراج في المزاج العام بعد اعادة انتشار القوات السورية وبحيث ان بيروت الكبرى باتت خالية من بضعة آلاف جندي سوري وهي حالة من شأنها ان تزيل مع الوقت آثار التوعُّك الذي أربك لبضع سنوات الوضع الداخلي اللبناني... إننا قبل الحديث عن اعمال تلك اللجنة واعمال الدورة الرابعة والثلاثين لوزراء الإعلام العرب من الضروري إلقاء نظرة على التوعُّك الاردني الذي واكب اجتماع تسعة وزراء خارجية عرب، وعلى بداية انتهاء التوعُّك اللبناني الذي في ظله التقى وزراء الإعلام العرب. ذلك أن هذين التوعُّكين هما جزء من قضية الوفاق الداخلي لدولتين عربيتين احداهما على خط النار الذي جرى تبريده (اي الاردن) والثانية على خط النار القابلة للاشتعال في اي لحظة (اي لبنان). وقضايا الوفاق الداخلي تصب في نهاية الأمر في بحيرة القضية العربية العامة. الذي حدث هو أن ابراهيم غوشه المتحدث الرسمي بإسم حركة «حماس» وصل يوم الخميس 14 يونيو (حزيران) 2001 على متن طائرة الخطوط الجوية القطرية آتياً من الدوحة التي يعيش فيها وبرعاية وتكريم من جانب امير دولة قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني. ويبدو أن وصول غوشه وهو الاردني من اصل فلسطيني كان مباغتاً ومن دون اي تنسيق مسبق بين السلطات المعنية في البلدين الأمر الذي جعل جماعة الأمن في مطار الملكة علياء يمنعون غوشه من دخول الاردن طالبين، وبعد التشاور مع المراجع العليا في المملكة، ان يعود الرجل الى حيث كان وعلى الطائرة نفسها التي وصل على متنها الى عمان. وعندما رفض قائد الطائرة، وبعد التشاور مع المراجع العليا في الدوحة، إعادة غوشه فإن سلطات مطار الملكة علياء منعت الطائرة من المغادرة.

قد تكون السلطات القطرية ارادت من اعادة غوشه الى بلده وبالمباغتة التي اتسمت بها العودة إنهاء هذا الإشكال بين الحكم الاردني وحركة «حماس» الذي يعود الى العام 1999، وأن يكون الإنهاء من خلال الصدمة الكهربائية التي هي أخت المباغتة الى حد ما. كذلك قد تكون رأت، هذا اذا نحن اسقطنا سوء النية واستبعدنا وجود ازمة صامتة بين البلدين، أن إنهاء هذا الإشكال لن يتم بالتشاور وأنه ما دام الامر كذلك فليتم وضع ابراهيم غوشه على متن طائرة قطرية وإرساله غير مخفور الى بلاده وذلك خشية ان يبقى الى ما لا نهاية في قطر ومعه بعض قادة «حماس» وهو ما من شأنه ان يتسبب بإرباكات لهذه الدولة التي سجلت خطوات متقدمة على صعيد الانفتاح على اسرائيل او العكس. ومن هذه الإرباكات ان تصبح استضافة غوشه سنتين بمثابة سابقة تجعل من الدوحة «دوحة» لطلاب اللجوء السياسي، وبالذات اولئك المنتسبين الى حركة «حماس» وغيرها. ومثلما انه من المؤكد ان استضافة قطر للحماسيين خففت بعض الشيء من العتب العربي عليها نتيجة العلاقة التي تأسست بينها وبين اسرائيل، إلا ان هذه الاستضافة اوجدت في الوقت نفسه الكثير من التساؤلات في شأن هذه المعادلة العصيِّة على الفهم وهي ان المتحدث بإسم الفصيل الأكثر تشدداً في المقاومة الفلسطينية والذي له الفضل الاساسي في انتفاضة الاقصى والذي قام بعض مناضليه بعمليات جهادية فاعلة ضد اسرائيل والذي هو حليف «حزب الله» في لبنان، مستضاف في عاصمة الدولة الأكثر اقتناعاً بجدوى الانفتاح على اسرائيل. وهي تساؤلات مشروعة لأن معنى هذه الاستضافة هو إما إسكات صوت المتحدث بإسم حركة «حماس» الذي هو ابراهيم غوشه، وإما تبدُّل رؤية دولة قطر للعلاقة مع اسرائيل. وبالنسبة الى الشق الاول فإن العلاج هو في تسفير ابراهيم غوشه الى عمان وتركه في مهب رياح المزاجين القطري والاردني مرْميَّاً في صالة الترانزيت في مطار علياء وهو إجراء كثير الخشونة بكل المقاييس بما في ذلك المقياس الامني.

واللافت للانتباه أنه مع دخول بقاء غوشه في المطار ومنع الطائرة القطرية من المغادرة إلاَّ اذا هي اعادته، الاسبوع الثالث، لم تعط المرونة فرصتها. وما سمعناه من وزير الإعلام الاردني (زميلنا العائد الى الوزارة) صالح القلاب كان مفزعاً وكان لا يبشر باحتمال ايجاد المخرج المناسب، بل ان الوزير الاخ صالح تحدث في عمان، ثم في بيروت بعد ذلك وباستفاضة، بلهجة وزير الداخلية او مدير الأمن العام وذلك لدوافع عصيَّة على الفهم هي الاخرى من جانب سامعيها، مع انه وزير للإعلام وصاحب عقلية متفتحة وغير ثأرية. وما سمعناه تمثَّل بقوله عشية انعقاد الدورة الرابعة والثلاثين لوزراء الإعلام العرب في بيروت التي هي الى حد معقل بالغ الاهمية من معاقل «حزب الله» المناصر لابراهيم غوشه والمتأثر بما جرى له: «ان زعماء حماس ليسوا اردنيين وسنتعامل معهم على هذا الاساس. كما ان الاردن لن يقبل وساطة الجامعة العربية بل يرفض اي وساطة مهما كانت بينه وبين حماس. والجامعة ليس لها علاقة في هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد لأن هذه الازمة ليست ازمة عربية...». اما الجهة المقبولة وساطتها فإنها، في نظر الوزير القلاب، ليبيا فقط. لماذا؟ يوضح: «ان المبادرة الليبية قد تكون متفقة مع بعض الشروط الاردنية، كما اننا نشكر ليبيا والاخ القائد معمر القذافي الذي عوّدنا ان يبادر الى القضايا العربية، وهو قائد مرموق عوّد الامة العربية على المبادرات الخيّرة...». لكن الذي نخشاه ونتمناه في الوقت نفسه هو أن تفرض التطورات والمصلحة على الملك عبد الله الثاني الإقرار بأن ابراهيم غوشه اردني وان مكانه ليس صالة الترانزيت في مطار الملكة علياء وانما منزله او ايداعه السجن بعد اصدار حكم عليه. كما ان المصحلة والظروف قد تفرض تعديلاً جذرياً في الشرط الاردني الذي على اساسه يتم السماح لابراهيم غوشه بالدخول الى بلده. وخلاصة هذا الشرط التعجيزي هو أن يعلن الرجل انه ليس عضواً في المكتب السياسي لحركة «حماس» وليس عضواً في الحركة ولا ناطقاً رسمياً باسمها وليس له اي صفة في الحركة، اي بكلام اكثر وضوحاً انهم يطلبون من الرجل ان ينزع جلده ويتنكر لماضيه ويتبرأ من الحركة التي وجد فيها ذاته. بل قد يجوز القول من باب المقارنة ان هذا الطلب او الشرط هو مثل ذاك المطلوب من الرئيس ياسر عرفات تنفيذه وهو اعتقال قادة حركة «حماس» وبعض مناضلي الحركة و«الجهاد الإسلامي» وإلا فالحصار الاسرائيلي للشعب الفلسطيني مستمر فضلاً عن العدوان والإذلال والتجويع.

اما لماذا الخشية وعلى من ولماذا التمني ومِن مَن فإن الاجابة عن ذلك هي ان الخشية هي على الاخ صالح القلاب، لأن معنى إقرار الملك عبد الله بأردنية ابراهيم غوشه وما يستتبع ذلك من عفو او اجراءات هو أن الوزير الاردني استعجل التشدد واستبق الضرورات. اما التمني فهو أن يحذو الملك عبد الله الثاني حذو والده في ساعات تهب فيها على المملكة رياح من شأن غبارها اقلاق الوفاق الوطني. وفي تقديرنا انه لو كان الحسين يرحمه الله على قيد الحياة لكان طلب من السلطات المختصة استقبال ابراهيم غوشه استقبال الزوار الاستثنائىين فلا تكون هناك ازمة ولا تنشأ عن الازمة منغصات داخلية وخارجية. هذا فضلاً عن انه سيكون سجّل في المرمى الحماسي هدفاً لمصلحة السمعة الوطنية للمملكة وسجّل في المرمى القطري بضعة اهداف يمكن توظيفها لمصحلة الوضع الاقتصادي المتردي.

هذا بالنسبة الى التوعُّك الذي حدث في عمان وللاردن. اما التوعك الذي بدأت الخطوة الاساسية على طريق تواريه، بأمل تحقيق حالة انفراج جذرية في المزاج العام اللبناني، فيتمثل في اعادة انتشار القوات السورية وانسحاب سبعة الاف من اصل عشرة الاف جندي وضابط سوري من مناطق بيروت الكبرى في اتجاه منطقة البقاع وبذلك لم يعد الوجود السوري العسكري تلك المادة الوحيدة في جدول اعمال التداول لدى بعض المعنيين بهذا الوجود ولدى معظم الذين يعنيهم كثيراً بقاء هذا الحشد الكبير من القوة العسكرية السورية وكذلك معظم المهمومين من استمرار بقاء هذا الحشد.

والذي يلفت الانتباه هو أن اعادة الانتشار بدأت يوم الخميس 14 يونيو (حزيران) 2001 وجاء حدوثها مفاجئاً ومن دون مقدمات وأن اثنتين من المؤسسات اللبنانية ـ واللتين هما عملياً او في بعض جوانبهما مؤسسة واحدة هما فقط دون بقية المؤسسات ـ كانتا المعنيتين والعارفتين والساهرتين على عملية التنفيذ. وهاتان المؤسستان هما رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش. اما الحكومة ومجلس النواب فإنهما علما بالأمر مثل بقية كل اللبنانيين. وقد يكون ذلك حدث عن سابق تصميم او نتيجة ان الانسجام بين الرئاسات هو الآخر متوعك ومن دون ظهور مؤشرات الى انه زال بفعل مساعي التوفيق السورية. من المؤكد ان التوعُّك الذي بدأ في الاردن لن يستمر، وقد يكون الحكم الاردني في انتظار الوسيط العربي الذي يقلل بمسعاه نسبة التراجع في الإجراء الاردني الذي تم اتخاذه في حق مواطن اردني ما زال مؤمناً بتحرير فلسطين في الحد الاقصى وقيام الدولة وعاصمتها القدس في الحد الادنى، بينما اهل الحكم في الاردن يرون ان مقياس السعي الفلسطيني هو فقط الذي يمثله الرئيس ياسر عرفات، وبقية افراد طاقمه السياسي وكفى الفلسطينيين حسنات الانتفاضة وشر العدوان الشاروني. كذلك من المؤكد ان التوعُّك الذي بدأ يتوارى بعد الانسحاب السوري من بيروت الكبرى سيضع لبنان على مشارف الاستقرار بعدما كان على حافة الهاوية.

اما اعمال لجنة المتابعة العربية وتوصيات وزراء الاعلام العرب فإن القراءة المتأنية لها وما قد تعود به من خير على القضية تستوجب حديثاً آخر.