لماذا تنشأ التنظيمات السرية؟

TT

كان (حسين) الشيوعي يتحمل التعذيب في محاولة لكسب الوقت، وكانت الاستخبارات تريد كشف التنظيم بأي ثمن. كان الطرفان في سباق مع الزمن. وكانت كل دقيقة ذات قيمة وكل تحملِ له معناه. كاد (حسين)، بين فكي (ماكينة الاستجواب) و(تعذيب الضمير)، ان يبوح بأسماء رفاقه في التنظيم السري، ولكن الى متى يصمد امام ماكينة التحقيق الجهنمية؟ وفي النهاية حدث ما لا بد منه، فاعترف وألقي القبض على بقية اعضاء التنظيم، ومكث مع الرفاق 12 سنة في السجن بتهمة ممارسة نشاط سري محظور. وما نسيه حسين ان القاعدة الاولى في التنظيمات السرية تقول ان سقوط عضو من تنظيم سري في قبضة نظام قمعي يوجب تغيير بنية التنظيم فورا، لأن اوراقه اصبحت مكشوفة. ولم يكن قول المسيح من فراغ (ما من خفي لن يعرف او مكتوم لن يعلن والذي اقوله لكم في الظلمة قولوه في النور والذي تسمعون به في الآذان نادوا به من على السطوح). يقوم العمل (الاستخباراتي) على التعذيب والتجنيد والترغيب والترهيب. او كما قال ضابط الاستخبارات الألماني الذي روت خبره مجلة «الشترن»: كنا نعالج (فئران التجربة) بالحلاوة والسوط، كما يقوم عمل الاجهزة الامنية على (تقاطع المعلومات) و(الشك) في كل انسان بمن فيهم انفسهم. فقد يتكلم احد اعضاء التنظيم بجملة مفيدة، ولكن قد يأتي آخر مصاب باسهال في الكلام فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا رواها. وبين الاثنين ثالث لا يتطوع بالمعلومات ويجيب باختصار ولكنه يفيد في لعبة تقاطع المعلومات. ويبقى اندر النادر من يموت تحت آلة التعذيب صامتا وليس كل مرة بصموده، بل بمرض لم ينتبه له المحققون. ويبقى في النهاية اكتشاف الحقيقة الكريهة انه مع ادوات التعذيب لا تبقى اسرار وان التنظيمات السرية لا تزيد عن خرافة. ان آلة التحقيق غير حريصة على قتل الناس، بل انتزاع المعلومات، فإذا سحبت المعلومة من دماغ الضحية اصبح لا قيمة له. وهي تريد الوصول الى (دماغ) التنظيم ومعرفة (شكله)، فالتنظيم (الهرمي) سهل الاختراق اما التنظيم (الخيطي) فصعب فكه، لأن قطع أي حلقة فيه يعني انفراط عقد مسبحة التحقيق.

هذه هي باختصار لعبة الفأر والقط بين التنظيمات المسلحة السرية والانظمة المضادة. ولكن لماذا تنشأ التنظيمات السرية عموما؟ ولماذا يخفي الانسان آراءه ونشاطه؟ ان لهذا سببين: (الاضطهاد) و(العمل المسلح) او عليهما معا. ويمكن اختصاره بجملة واحدة: (النشاط غير المشروع) سواء في دفع الخصم اليه او التخطيط له مسبقا. هكذا تكونت معظم الاحزاب الشيوعية في العالم الثالث. عندما يختنق المجتمع بالنظام الشمولي فلا يبقى هامش للمعارضة وتتم مصادرة كل الافكار والتيارات لصالح فرد او حزب او طائفة، فإن الوضع يعمل ضد قانون وجودي هو التعددية، وهو العمل ضد ما لا يمكن العمل ضده، لأنه عمل ضد تيار الطبيعة، فالضوء بُني من طيف سباعي، والجبال شُكلت من غرابيب سود وحمر مختلف ألوانها، والزهور وُزِعت مشتبها وغير متشابه ألوانها، والحيوانات خُلِق منها ما يمشي على بطنه ومنها ما يمشي على اربعة، والناس جُعِلت بآراء مختلفة. ولذلك خلقهم. هكذا بُني الكون وبموجبه يتطور. وامام (الاختناق) يتم (الانزلاق) الى (اللامشروعية) بممارسة النشاط تحت الارض، بكل مخاطره، لأنه يمثل حاجة حياتية للتعبير. ولكن كل عمل ينزلق الى جحر اللاشرعية يعاني من اختلاطات (السرية) واختناق التهوية.

يبدو ان الدعوات اثناء المطاردة تفعل ما تفعله بذور الطبيعة فتتشرنق وتغلف نفسها بغلاف حافظ الى حين تحسن المناخ فتنفجر بكل الطاقة لتعوض لحظات الخمود السابقة، فإذا بقيت مدفونة في التربة تعطنت. هذا قانون بذور الطبيعة ونمو الدعوات. انها تمارس لفترة محدودة نوعا من العزلة والاعتكاف والانكباب على الذات لحين تبلور الفكرة قبل اختراق المجتمع. دعوات الانبياء استهدفت (الانسان) لتغييره، فمشت في مراحل بين الحضانة والانتشار والصدام. اما التنظيمات السرية المسلحة فهي مولعة بالحكم، وتقوم على المناورة والتخفي وتدريب العناصر بغية الانقضاض على (النظام) في لحظة الصفر. واكثر ما يوجد هذا النوع من التنظيمات في البنى العسكرية، حيث يتآمر الكل على الكل في غدر لا ينتهي. وعندما تنزلق مجموعة الى العمل السري المسلح فهي حريصة على ثلاثة امور: قدرة التملص من ضربات النظام وماكينة التحقيق الجهنمية. الوصول بسرعة الى الهدف لقلب النظام. واعتماد نوعية من العناصر بعدد غير كبير وبتدريب خاص من قوة البنية والتحمل في ظروف الاختفاء. مع هذا فإن لعبة الفأر والقط لا تهدأ ويحاول النظام دوما اختراق هذه التنظيمات بهدوء، لحين اقترابها من لحظة الصفر فيدمرها تدميرا. ان السرية تتعانق مع العمل المسلح في زواج غير شرعي تحت الارض. كما ان الصراع يُحصر في (بعده السياسي) وبين فريقين من المغامرين بين ظهراني امة فقدت قدرة تقرير المصير وتنتظر انتقالها من يد عصابة الى يد عصابة جديدة. ان السرية خطر في (علم السياسة) وهي شذوذ في (علم النفس)، كما هي مرض في العلاقات الانسانية في (علم الاجتماع) وهي في (الطب) بؤرة قيحية. نحن نعرف في الطب ان اخطر الجرائم هي (اللاهوائية) والغانغرين فيها قاتل ومعالجته بالاستئصال الواسع وكشف المكان للهواء. ونحن نعلم من (علم النفس) ان العقد النفسية تنفك بدفعها من (اللاوعي) المظلم الى (الوعي) تحت الضوء فينشط المريض من عقال. ونحن نعرف في المجتمع ان (الصحة الاجتماعية) هي بالتخلص من مرض الغدر من خلال المصارحة المتبادلة. واما في (عالم السياسة) فإن وجود الرأي والرأي المضاد والنقد العلني والمظاهرات السلمية والتعددية الحزبية وتنوع المنابر والصحافة الحرة يخلق الجو الصحي لخلق ادارة جماعية ودماغ اجتماعي متطور.

ان سر الديموقراطية يختصر في كلمة واحدة: وجود المعارضة. تعتمد طريقة الانبياء (العلنية) دخول المواجهة مع الفكر السائد وتحمل العذاب حتى النصر. اما الاحزاب السرية فتتسلح تحت الارض للقفز على السلطة في لحظة ليل غادر على ظهر دبابة بانقلاب ابيض او احمر. في الطريقة الاولى من المحنة والعذاب ينصقل جوهر الانسان في كَبّد. وفي الطريقة الثانية تنمو شخصيات مشوهة وقاسية في ظلمات من السرية والغموض. وفي الحين الذي يقوم عمل الانبياء على مواجهة واضحة بقيادات معروفة تستقطب الجماهير تحت ضوء النهار، ويتم التخلص من المنافقين وتتوضح الفكرة الى درجة التألق وتتكون رأس الحربة من الاقلية المبدعة التي تمشي خلفها الأكثرية بآلية المحاكاة وينضج العمل في نار المحنة، كما يتصفى الحديد من شوائب الخبث، فإن العمل السري مهيأ لنمو كل الطفيليات الضارة في اوساط سرية لا تنمو فيها إلا شخصيات مريضة تتقن الدهاء والغدر والتآمر وتصفية الرفاق. ومعنى هذا الكلام ان يتدرب الانسان العربي على ثلاثة امور: اولا، العمل العلني. ثانيا، تنظيم نشاطه في صورة هلامية غير حزبية الى حين انتقال النشاط الى تشكيل تيار مبلور. واخيرا، وهو الاهم، تطليق العنف ثلاثا في بينونة كبرى وبشعار مثلث: (لا للتنظيم لا للسرية لا للعنف). التنظيم شبكة لاصطياد الاتباع وقتل ملكة التفكير الحر. والسرية استنبات الجراثيم في وسط موبوء. والعنف تدمير المجتمع واعاقة نموه. وتصب لعبة السرية والعنف في النهاية في صالح الانظمة القمعية، فهم يدفعون الناس الى جحر اللاشرعية بالعمل تحت الارض حيث يمكن اصطيادهم كالفئران المذعورة وهم يمارسون نشاطا غير مشروع بعيدا عن حضور الامة وتتم تصفيتهم بكل هدوء وبأقل قدر ممكن من الضجة.

هذا ما حدث ويحدث في العالم العربي حتى اليوم، وهو سر الاستعصاء السياسي، لأنه استبدال الطولونيين بالفاطميين، وزوال بيبي الثاني لصالح كافور الاخشيدي. وفي الجزائر وغيرها لو اعتمدت المقاومة الاسلامية هذا التكتيك لغيرت الواقع. وتراهن الانظمة على نقل الصراع دوما الى ظلمات السرية، حيث يتم خنق كل كائن حي بدون صوت، ومسك بقية الامة بسوط الرعب. ويتعجب الكثير مني حين اقول ليست عندي اسرار، وما اناقش فيه أي انسان يمكن ان اتحدث به الى أي ضابط امني او من فوق أي منبر عالمي. وإن سئلت عن أي شيء فلن اخفي شيئا على من لا تخفى عليهم خافية. ان هناك آلية هامة للعمل العلني. انها تستقطب كل صادق استغرقه المبدأ واستولى عليه عشقه، وعلى يد هؤلاء القلة يكتب النصر والتغيير. اما العمل السري المختبئ تحت الارض فلا يخضع لقانون النضج. وبقدر ما ينضج العمل العلني مع الضربات والمواجهات الساخنة المرة بعد المرة، فإن الذي يختبئ لينتفض انتفاضة واحدة يشبه الذي يقامر بماله ضربة واحدة ولا يخضع لقانون النمو المتتابع المستمر. لذا كانت المحنة ضرورة وشرطا اساسيا في التشكل. ان مشكلة نمو أي تنظيم برأسين مدني وعسكري هي مصير الجنين العنكبوتي. فعندما يستفحل نمو احد التوأمين في الرحم لا يبقى امام الآخر إلا ان يخرج مثل الورقة الجافة، ميتا بأطراف مثل العنكبوت. هكذا يلتهم الجناح العسكري في أي تنظيم الجناح المدني وفي جو من السرية المطبقة. هذا ما فعله (التنظيم الخاص) بالاخوان المسلمين، وهو الذي فجّر بقية الحركات السياسية من بقية الاتجاهات.

ألقي القبض على تنظيم سري، وفي السجن سأل زعيمهم احد المعتقلين: الى أين ستمضي الامور. قال سأروي لك قصة. طلب ملك من وزيره تعليم حماره النطق وإلا قتله، فرضي بذلك ثم بدأ مهمة التعليم. سألته زوجته يوما: هل انت مجنون وهل علمت ان الحمار نطق يوما؟ قال: يا زوجتي العزيزة، هي واحدة من ثلاث، فإما مات الملك او مت انا او مات الحمار. التفت السائل الى رئيس التنظيم: وإذا لم يمت احد من الثلاثة؟ انعقد لسان الحزبي فلم يحر جوابا.

[email protected]