دراجات وذكريات

TT

ليس من رأى كمن سمع. وقد رأيت وسمعت في فينسيا الشمال ما لم أر ولم أسمع في أي مكان آخر.

فينسيا الشمال هي مدينة امستردام التي قصدت لحضور المهرجان الدولي للافلام الوثائقية. رأيت رجالا يرتدون ثيابا رسمية كالبدلة ورباط العنق والحذاء اللامع، وهم في الطريق الى مكاتب العمل، لا في قلب سيارة مرسيدس آخر موديل ولا حتى أودي او بيجو، بل على دراجة. ورأيت نساء في ثياب عصرية يجبن الشوارع والاسواق على دراجة. امهات يحملن الاطفال داخل صناديق صغيرة ثبتت في مقدمة الدراجة.. رأيت رأس كلب صغير طويل الشعر يطل من داخل صندوق ثبته سيده في مؤخرة الدراجة، واصطحب صديقه ذا الفراء في نزهة شم هواء في قلب المدينة. وقبل ان يفترض القارئ ان الدراجة اختيار تمليه قلة الفلوس اقول ان امستردام هي احد المراكز المالية والتجارية والثقافية المهمة في شمال اوروبا. مدينة ثرية يسكنها اكثر من مليون نسمة، يعيشون حالة رخاء تدعمها ديناميكية حب العمل.

وحدي ومن قبل ان أبحث عن المعلومات التي اكدت دقة ملاحظتي، اكتشفت ان في امستردام دراجة لكل مواطن. ففي مدينة تعدادها مليون ومئتا الف نسمة في ساعات الذروة، توجد مليون دراجة. وقد وفرت بلدية المدينة عشرة آلاف موقف للدراجات في باحة محطة القطار الرئيسية في قلب المدينة للمسافرين، الذين يفدون الى امستردام للعمل صباحا من المدن الاخرى.

يفخر سكان امستردام بأن مدينتهم هي عاصمة الدراجات في اوروبا. فهنا يمكنك شراء دراجة او استئجارها، ويمكنك ان توظف ابداعك في طلائها باللون الذي تختار من الاحمر الى الأصفر بدرجاته. ولكي تحمي دراجتك من السرقة، اختر من الجنازير السميكة المزودة باقفال متينة ما يرضيك، بحيث تترك دراجتك في المواقف المخصصة للدراجات، وتعود فتجدها بانتظارك.

في شوارع هذه المدينة، القاسم المشترك بين الناس الذين يسكنونها، لا يمكن ان يكون سحنة معينة أو لون البشرة والشعر والعينين. فهنا تختلط 177 جنسية مختلفة لتشكل نسيجا سكانيا فريدا يركب الدراجة، ويجيد التفاهم بلغة البلد. فقد ادى تدفق الهجرات الى دعوة المهاجرين لتعلم اللغة مجانا، واختيار الدراجة كبديل للسيارة احتراما للبيئة.

قد يدهش القارئ من انتباهي المكثف لوجود الدراجة في حياة هؤلاء الناس. فقد نشأت في ثقافة حرمت على الفتيات ركوب الدراجات. كانت البنت التي تركب الدراجة تعد جريئة أو بلغة الشارع المصري انذاك: صايعة والعياذ بالله.

وفي أول الصبا اشتد اعجابي بشقيقي الاصغر، الذي كان يدعوني للاطلاع على امجاده في ركوب الدراجات، وانا اطل من شرفة المنزل، وأراه منطلقا كالسهم على دراجته رافعا يديه في الهواء ليثبت انه يستطيع الركوب بدون استخدام اليدين على المقود. وبما انني من نوع الناس الذي لا يقبل بالهزيمة، قررت ان اتعلم ركوب الدراجة في الباحة الخلفية لمنزلي، بعد ان تجاوزت سن الثلاثين، وبعيدا عن كل اتهام ممكن بالصياعة. ارتحت كثيرا لأنني تعلمت ان احتفظ بتوازني خلف المقود. بعدها عدت بهدوء الى سابق عهدي في السير على الاقدام وركوب الباص والتاكسي والسيارة. ثم اختزنت التجربة كلها في ارشيف الذكريات، الى ان ساقتني ظروف العمل الى عاصمة الدراجات في العالم، فتحركت الذكرى.