إنهم يشكِّكون أيضاً!

TT

في حمأة الحديث عن السلام وعقد مؤتمرات تخلو وثيقتها الأساسية من ذكر كلمة «احتلال»، والذي هو أصل كلّ معاناة العرب في هذه المنطقة، تكرّس إسرائيل وقتاً وجهداً وإعلاماً وجهود منظمات أمريكية لـ«التشكيك» في فيلم مقتل الطفل الشّهيد محمد الدرّة، والذي صعق استشهاده العالم نتيجة إصرار البنادق الإسرائيلية وعلى مدى 45 دقيقة على سلبه حقه في الحياة في منظر لا يمكن لإنسان يتمتّع بأدنى درجة من الإنسانية تحمّله.

وحملة محاولة التبرئة هذه هي جزء من جهد منظّم ومركّز لتصوير ما يجري في المنطقة بأنّه عنف وقتل ودمار مجهول السّبب والمصدر كي تظهر إسرائيل بمظهر البلد الديمقراطي المدافع عن حقوق الإنسان، والذي يحاول حلّ «المسائل العالقة» مع الفلسطينيين وكأنّ احتلال بلد اسمه فلسطين وتهجير ملايين الفلسطينيين وارتكاب عشرات المجازر الدموية ومحو قرى عن بكرة أبيها وممارسة سياسة التطهير العرقي والعقوبات الجماعية ضدّ ملايين الفلسطينيين، وكأن كلّ هذا يسمّى

«مسائل عالقة» كي لا يتم ذكر جوهر المسألة، وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وممارسة سياسة القتل والتهجير للعرب، سكّان البلاد الأصليين، من أجل الاستيلاء على الأرض والمياه وخلق واقع استيطاني يثبّت أقدامه ويدحر السكان الأصليين إلى مناطق صغيرة مكتظّة وفقيرة تماماً كما حدث للسكّان الأصليين في استراليا وأمريكا وكندا.

ولكن لماذا الإصرار على إعادة فيلم محمد الدرّة والتشكيك في أنّ الجيش الإسرائيلي قام عن عمد وسابق إصرار باغتياله؟ لأن استشهاد محمد الدرّة أظهر إسرائيل على حقيقتها في نظر العالم، قاتلة أطفال وعديمة الإنسانية وأسوأ منتهك لحقوق الإنسان في العالم. وهذا بحدّ ذاته يُري التقصير الدولي في تصوير اغتيال إسرائيل لمئات الأطفال الفلسطينيين الآخرين الذين قضوا برصاص الاحتلال الإسرائيلي دون أن تسمح إسرائيل لرجال الكاميرات بأن يكونوا شهوداً على جرائمها بعد محمد الدرّة. فقد اغتالت الصحفي جيمس ميللر الذي كان يوثّق فيلماً لاغتيالات إسرائيل لأطفال فلسطين، كما سحقت جسد الشّابة الأميركية راشيل كوري بجرّافة إسرائيلية كي لا تشهد على همجيّة إسرائيل، واغتالت الصحفي البريطاني توماس هيراندال ونكّلت بأنصار السّلام الذين قدموا إلى فلسطين، إلى أن أصبح وصول الكاميرا إلى مناطق ارتكاب إسرائيل لجرائمها بحق الشعب الفلسطيني أمراً صعباً للغاية. لهذا السبب نفسه شهدت السنوات الماضية استشهاد عدد كبير من الصحفيين في فلسطين والعراق كي يردعوا حاملي الكاميرات من الوصول إلى مكان الحدث، كما فعلوا أثناء ارتكابهم المجازر في جنين وغيرها، ولكنّ الوجه الآخر لهذا النقاش يُري أهميّة إيصال كلّ صورة وكل خبر عن اغتيال إسرائيل لأطفال فلسطين وشبابها إلى ضمير الإنسانية كي تظهر إسرائيل على حقيقتها للرأي العام العالمي، منظّمة إرهابية تفتك بشعب بريء كي تحتل أرضه وتستولي على موارده وتهوّد قراه ومدنه ومقدّساته.

فقد نشرت الصحف الإسرائيلية أنّه خلال أسبوع انعقاد مؤتمر أنابوليس قتلت إسرائيل عشرين شاباً فلسطينياً من قطاع غزة حيث يكاد لا يمضي يوم إلاّ وتغتال إسرائيل بدم بارد وحاقد أربعة من خيرة الشباب الفلسطيني المقاوم للاحتلال والإذلال الإسرائيليين.

أما قصّة أطفال فلسطين فهي قصّة يجب أن توثق كتابةً وتصويراً كي يَرى العالم حقيقة إسرائيل بأنها أسوأ قاتلة للأطفال في العالم وأسوأ من يغتال الطفولة البريئة ويحرمها حقها في الحياة. وعلى وسائل الإعلام العربية والعالمية ألاّ تجرّد الشهداء من أسمائهم وصورهم بل وأن تَروي قصّة كلّ واحد منهم كما روت قصّة محمد الدرّة كي يرى العالم أنّ محمد الدرّة هو واحد من مئات الشهداء الأطفال الذين تقنصهم نار الحقد الإسرائيلية، ولكنّ الفرق الوحيد هو أنّ كاميرا التلفزيون الفرنسي كانت موجودة بالصّدفة وصوّرت ما جرى بالضبط. وبعد ذلك أخذ الإسرائيليون حذرهم أن يضمنوا عدم وصول الإعلام إلى أماكن ارتكاب جرائمهم بحقّ أطفال وشباب ونساء فلسطين.

فقد قتلت إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة وحتى 9/4/2007 تسعمائة وواحدا وخمسين طفلاً في الضفة الغربية وقطاع غزة برصاصٍ وقذائف، في حين بلغ عدد الجرحى 18811 طفلاً، يعاني الكثيرون منهم إعاقات دائمة. وأكّدت التقارير أن 35% من شهداء المجازر الفلسطينية هم من الأطفال. ولا يتّسع المجال لذكر الأطفال الذين قضوا من الطفلة زينة مرعي ذات الأعوام الثمانية، إلى الطفل محمود الكفافي الذي سحقت جسده الغضّ جرّافة احتلال إسرائيلية في 20/9/2007، إلى الطفلة يارا السومري التي قتلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في تفجير منزلها في 27/10/2007، إلى الأخوين الشهيدين رأفت وطلال أبو شرينة، إلى الطفلة عبير العرامين (10) أعوام، التي أطلق عليها جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على بوابة مدرستها في قرية عناتا شمال القدس، وماذا تقول الطفلة هدى غالية التي أباد صاروخ إسرائيلي عائلتها على شاطئ غزة فدمّروا بذلك أغلى ما تملكه في هذه الدنيا.

إنّ الموثّقين العرب يجب أن يوثّقوا هذه الجرائم ضدّ أطفال فلسطين وينشروها إلى العالم كي لا يتجرأ العنصريون الصهاينة بإطلاق حملات التشكيك في قيام جنودهم بقتل الطفل محمد الدرّة بدم بارد وبطريقة همجيّة لا تقلّ وحشيّة عن جرائم المجازر التي ارتكبوها في دير ياسين وكفر قاسم وغيرها من القرى العربية عامي 1947 و1948 لتهجير الفلسطينيين عن أرضهم، ولا تقلّ دناءة عن قرارات شارون وغيره باغتيال المدنيين العرب في بيوتهم وفي الملاجئ، كما حدث في قانا وصبرا وشاتيلا. والغريب هو أن اليهود هم بالذات من يشتكي من حملات «التشكيك» لِمَا أصابهم من جرائم المحرقة على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، واستصدروا القوانين في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية والأميركية لمعاقبة من يشكّك في ذلك. فكيف بالذين يرفضون التشكيك في ما أصابهم يستخدمون أسلوب التشكيك نفسه للتغطية على جرائم بشعة ارتكبها جنودهم مراراً وتكراراً أمام عدسات كاميرا عالمية وعلى مسمع العالم ومرأى منه!

لماذا لا يقتدي مرتكبو الجرائم بحق الفلسطينيين بالألمان الذين اعتذروا عن جرائم ارتكبها النازيون الألمان مع أن المعتذرين هم ضحايا النازيين أيضاً ؟ لماذا يقتدون بالفرنسيين الذين قتلوا مليون ونصف مليون جزائري ويرفضون الاعتذار؟ ولماذا يقتدون بالأميركيين الذين قتلوا إلى حد الآن مليون ومائتي ألف مدني في العراق دون أن يفكّروا في الاعتذار. إن قَتَلة أطفال فلسطين يجب أن يظهروا للعالم على حقيقتهم لأن سياسة قتل الأطفال سياسة إسرائيلية معتمدة على أعلى المستويات، ولأسباب سياسية وإستراتيجية، ولكن يجب وضع هذا الملف الخطير بين أيدي أصحاب الضمائر الحرّة كي يضطرَّ القتلة ليس إلى الاعتذار وإنما التعويض على ضحايا جرائمهم البشعة.

إن حملات التشكيك التي يطلقونها بقتل محمد الدرّة تمثّل ذروة الاستهانة بحياة الآلاف الذين أعدموهم عن قصد وسابق إصرار نتيجة إهمال العرب لإبراز هذا الملف الإجرامي الخطير بكلّ تفاصيله للأسرة الإنسانية برمتها وحينئذ سيكون الحكم معروفاً ولن يرحمهم التاريخ بعد ذلك.

www.bouthainashaaban.com