ما تبقى من وطن.. تحت رحمة الصفقات!

TT

في مصر، وربما في دول شقيقة أخرى، تقليد طريف هو إذاعة نتائج الثانوية العامة في الإذاعة. وفي العادة تتلى أسماء المدارس وتدرج أرقام الناجحين من طلبتها، وبما أن في مصر كما في غيرها مدارس تجارية فاشلة قلما ينجح فيها أحد، اشتهرت عبارة «المدرسة الفلانية: لم ينجح أحد!».

لبنان، ايضاً يقترب اليوم من وضع «الدولة الفاشلة» Failed State، حيث لا ينجح أحد... بعدما فضلت نخبته السياسية أن يكون صفقة تجارية بدلاً من ان يصبح وطناً مثل سائر الأوطان.

فبرغم الانفراج الذي ظهرت تباشيره خلال الأيام القليلة الماضية مع تداول اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان كـ«حل وسط» يمكن أن يقبل به أطراف النزاع اللبناني ومن يؤيّدهم أو يحرّكهم أو يوظّفهم في خدمته من خارج حدود البلاد... وأيضاً بعد اختتام أعمال «مؤتمر أنابوليس» الموعود بكلام منمّق من دون أزمات تفجيرية معلنة، ثمة مَن يقول إن أزمة لبنان ما زالت بعيدة عن خط النهاية.

نعم في لبنان: لم ينجح أحد!

الحقيقة، كثيرون يعتقدون أن الأزمة مستمرة حتى إذا حصلت المفاجأة وارتضت الجهات المعرقلة بانتخاب سليمان رئيساً بعد إجراء التعديل (أو الإخراج) الدستوري ـ السياسي الملائم. وما لهجة البيان الأخير الصادر عن البطريركية المارونية في بكركي يوم الجمعة الماضي إلا الدليل القاطع على خطورة الوضع، وعلى أن سير الأحداث أحرج بكركي... فأخرجها.

لأول مرة، ربما منذ عام 2000، يتسم بيان صادر عن البطريركية المارونية بهذا المستوى من الصراحة وتوجيه أصابع الاتهام. والمفارقة أن بكركي توكلت على الله و«اتهمت»... بعدما وعد وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير وتوعّد بالكشف عن هويات من اتهمهم بتعطيل التوافق... وكالعادة أخلف الوعد والوعيد.

المرارة التي دفعت البطريركية المارونية إلى هذا الموقف مفهومة، مع أنه كان عليها أن تتوقع احتمال أن تتجه الأمور إلى ما سارت إليه. وأما الأسباب فعديدة منها ما يلي:

1 ـ بين المطارنة الموارنة، كما برهنت مجريات الأحداث في السنتين الأخيرتين، من لا يشاركون البطريرك نصر الله صفير نظرته إلى جوهر الأزمة الحالية. وكان لهؤلاء دورهم ـ غير مرة ـ في تجهيل الفاعل وتمييع الإشارات التي كانت تحملها البيانات الشهرية الصادرة عن بكركي، بل وصل خلافهم الاجتهادي (مع البطريرك) حول مصدر الخطر الأكبر على وضع المسيحيين في لبنان إلى حد فتح بعضهم معارك جانبية غريبة... أربكت الساحة وخلقت بلبلة في صفوف المسيحيين قبل سواهم.

2 ـ توجد في الساحة السياسية المسيحية حالة شاذة لا تكتفي باعتبار نفسها «مرجعيتهم السياسية الوحيدة»، بل تؤمن أيضاً ـ وهنا المشكلة الأفظع ـ بأنها قادرة على تحسين وضع المسيحيين عن طريق قيادتهم للانقلاب على اتفاق دستوري («اتفاق الطائف») يدرك أي عاقل أنه بات اليوم الضمانة الأخيرة لتمتع المسيحيين بالمساواة مع شركائهم الآخرين في الوطن. فالتبدل الديموغرافي المتسارع لغير صالح المسيحيين في عموم الأراضي اللبنانية يشكل قنبلة زمنية يصرّ بعض الموتورين من غلاة التعصب والجموح على تجاهلها. إن «اتفاق الطائف» يعطي المسيحيين راهناً نصف السلطة... بينما المطروح علانية بديلاً عنه «صيغة المثالثة»(!) ... وهذا أمر كان استشرفه البطريرك صفير بحكمته وتبصره منذ البداية.

3 ـ ثمة جهات في لبنان، ترفض فعلياً الاعتراف بالمؤسسات الدستورية. ولذا فهي تضغط على الأكثرية لكي تتنازل عن وضعها السياسي العددي وواجباتها الدستورية كأكثرية لسلطة شرعية منتخبة. وهي تصرّ على أن تشاركها الحكم وفق شروطها (أي المعارضة) المسبقة ... وتحت التهديد بتعطيل الحكومة وإرباك الأمن والاستقواء بالسلاح والاعتصامات والعصيان المدني الطائفي.

4 – المناخ الإقليمي المحيط بلبنان يحمل نُذر تأزمٍ لا طاقة لبلد صغير منقسم على نفسه بتحمّل تداعياتها. فللولايات المتحدة مشروع إقليمي ما زال يقفز فوق الحلول الحقيقية. وفي إسرائيل سلطة حاكمة ضعيفة التفويض وعاجزة بنيوياً وآيديولوجياً عن اعتماد خيارات قاطعة. وفي فلسطين معضلة تتفاقم سياسياً وأمنياًً ومعيشياً على مدار الساعة. وفوق سماء المنطقة صراع بين «حالة إيرانية» طموحة ترى أن لها ملء الحق في التصدي للمشروع الأميركي بكل ما أوتيت من قوة وتحالفات وامتدادات تحت أي شعار مناسب، ونظام سياسي عربي محرج لعجزه عن تليين الموقف الأميركو ـ إسرائيلي ومتخوف من سحب «الحالة الإيرانية» بساط شرعية التصدي لـ«اعداء الدين والوطن» من تحته ... وهي شرعية تغذى شعبياً بالمال والسلاح كما تغذى بالمزايدات الخطابية.

هذا الواقع، قبل «مؤتمر أنابوليس» وبعده يفهمه عقلاء لبنان، بمن فيهم عقلاءُ المسيحيين، لكن الواضح أن هؤلاء مغلوبون على أمرهم أمام التحدي الخطير الذي يواجههم.

فبعدما تفاءل البعض بالمبادرة الفرنسية تبين أنها قاصرة.. بل فارغة شكلاً ومضموناً.

وبعدما كثر الكلام الجميل عن الاستعداد للتسهيل ظهر أن من يقطع الوعود ممنوع من احترامها.

وبعدما تكاثرت التعهدات الأوروبية ـ الأميركية بدعم الشرعية ومعاضدتها لدرجة أحرجت الحكومة اللبنانية وكادت تصبغها بأنها «دمية» للخارج... يتخوف كثيرون الآن من أن الصفقة التي كان يلوّح بها صغار «ابواق» المعارضة بين دمشق وواشنطن وتل أبيب، ربما تكون اجتازت مراحلها الأولى.

ألا نذكر كلام نفر من هؤلاء عندما كانوا يخاطبون أهل الأكثرية بلهجة الناصح الودود ويناشدونهم ألا يراهنوا كثيراً على وعود واشنطن لأن من عادتها خذلان من تحالفهم؟

هؤلاء من دون قصد ـ وطبعاً من دون وعي ـ كانوا يدينون أنفسهم. فالصفقة، إذا كانت هناك صفقة... وهذا وارد، فإنها ستعقد مع معلميهم!