الفكر السادس: للورق الاشتراكي

TT

ذهبت إلى «المكتبة الوطنية» في المنامة بحثاً عن كتب جديدة عن البحرين، أو عن الخليج، أو دراسة خليجية لأهم دراما في القرن الماضي، أي صيد اللؤلؤ. ولم أجد جديداً. والقديم الذي وجدته عن نشوء وزوال موسم اللؤلؤ، قطن الخليج ونفطه قبل النفط، كان مترجماً. ومنقولاً بكل راحة بال. ودون أي حقوق للناشر أو للمؤلف الذي أمضى زبدة عمره في وضع الكتاب.

ولفت انتباهي كتاب وضع عليه بحرف كبير: مائة فلس. وهو «علي صبري يتذكر» للزميل عبد الله إمام. والكتاب المطبوع على ورق من الزمن الاشتراكي وعنوانه مشخوط بحرف من النسخي الاشتراكي، يقع في 142 صفحة من الحجم الصغير ومجموع بحرف صغير. وبدا كل شيء باهتاً وبمائة فلس. وأشك في أن أحداً سواي غامر بالمبلغ. فلم يعد أحد يعرف اليوم اسم علي صبري أو يتذكره. كان ذات مرحلة يخيف كل سياسي في مصر. وكان يمكن أن يغير التاريخ لو انقلب على أنور السادات وتعاقد مع السوفيات. لكن السادات انقلب عليه وتعاقد مع الأميركيين. ولم يبق من علي صبري سوى نسختين باهتتين في الأساس، في «المكتبة الوطنية» في «شارع المعارض»، المنامة القديمة. قرأت كتاب علي صبري صفحة صفحة لكي أربط ما بين 1970 و2007. لا شيء. ورق باهت من الزمن الاشتراكي لم يعد في التداول. وحرف صغير لم يعد يستخدمه أحد. وشعرت كم هي موجعة قسوة التاريخ. وسمعت نجيب ساويرس يقول في المنتدى «لو كانت الاشتراكية هي حقا الحل، لما كان 50 مليون مصري في الفقر».

لكن للتاريخ ألف تفسير وألف وجه. وعلي صبري الذي قيل إنه رجل السوفيات ولذلك ضربه السادات، هو ومجموعته، يروي هنا أنه كان أول من اتصل بالأميركيين فور قيام ثورة يوليو. ثم كان بعدها ضابط الاتصال بسبب صداقته مع الملحق الجوي الأميركي. وعلي صبري يقول لنا، خلافاً لما قرأناه لدى مراجع مصرية أخرى، إن جمال عبد الناصر لم يكن يخاف الجيش ولا كان يخشى أن ينقلب العسكر عليه، بل ان العسكريين أيدوه منذ أن اكتشفوا أنه يريد مراعاتهم في كل شيء. لكن ماذا ينفع الآن؟ ها هو التاريخ يباع بمائة فلس في شارع المعارض، ما بين محلات الأثاث وحلويات أحمد شويطر وبعض أضواء «النيون» الأخرى. وهذا الصباح تقول صحف البحرين إن الشرطة شنت حملات تأديبية واسعة على أضواء «النيون» الحمراء، أو ذات الأضواء المشبوهة. وعندما أقول «صحف» البحرين بصيغة الجمع، فليس عرضا ولا عبورا. فقد عرفت البحرين وهي بلا أي صحيفة. وكان ذلك فظيعا. وعرفتها حين أصبح فيها صحيفة واحدة. وكان ذلك مجرد بداية. وعرفتها وفيها صحيفتان، ولم يكن ذلك كافيا. لكن الصحف انهمرت فجأة في كل مُكان، بضم الميم كما يفعل أهل البحرين في تفخيم الأحرف. بمعنى التشديد على الأهميات. لكن معظم الصحف الجديدة ليست للقراء، بل للطوائف والتجمعات وتوزيع النكد على العموم. وذات مرحلة كان الإعلام في هذه الدولة الهانئة بيد أسطوري صغير يدعى طارق المؤيد. وغاب فجأة دون أن يترك تلامذة. ولم يبق من طارق المؤيد في أعالي المنامة سوى برج سكني يحمل اسمه بأحرف ضخمة على طريق الملك فيصل. الطريق الذي كان سيدشنه الملك في أول زيارة إلى الجزيرة، فاغتيل قبل الزيارة، فرفع اسمه في أي حال، فوق إحدى أجمل واجهات الخليج.

إلى اللقاء